العدد 3202 - الإثنين 13 يونيو 2011م الموافق 12 رجب 1432هـ

قصيدة النثر... معطيات الشكل وضرورات التغيير

عبدالحفيظ بن جلولي comments [at] alwasatnews.com

.

يعتمد الإبداع الشعري في عمومه كمنجز تجديدي، على تجربة الشاعر الوجودية والمواضعات التنظيرية، شاحذاً محاولاته في اجتياز الشكل إلى التقعيد الذي ينظم التجربة ويجعلها قابلة لتكريس «الإنتاجية النصية» بتعبير جوليا كريستيفا، وهو ما نلمسه من خلال مقاربة التّجربة الأوربية فيما يتعلق بقصيدة النثر، فلقد شهدت ميلاد شكلها الإنزياحي على يد بودلير ثم نظّرت لها سوزان بيرنار، بعد ذلك أسّست لنفسها منهجاً سمح للأجيال بعد بودلير ان تعبّر عن كينونتها داخل الشكل المنجز وفق معطيات اللحظة الشعرية الزّاحمة واستعداد الذات المقولي.

بين التّجربة والأصول

لم تشهد التجربة العربية في مجال قصيدة النثر تأسيساتها تبعا لمعطيات التجربة والتنظير؛ بل راحت تتبنين داخل بنى انفصالية تكرّس المنحى التفاضلي بين الأشكال داخل جنس الكتابة الشعرية؛ حيث ما حدث في أحد ملتقيات الشعر بالقاهرة من إقصاء لشعراء قصيدة النثر، يبيّن بوضوح تعامل الإبداع مع مواضعات التعبير وفق منطق الإنتقاء الذي ينحدر بالفن إلى مستوى الايدولوجيا؛ يتحول يتحول الصراع من إيجابية الخلق إلى انطوائية المركز.

تطرح التّجربة الشعرية العربية في مجال قصيدة النثر إشكالاً آخر يتمثل في جدليتي القطيعة والتواصل مع المنجز الشعري العربي التاريخي المتمثل في القصيدة العمودية، كون العقل الشعري يقف عند حدّي المعادلة، فإما قطيعة وإبداع من فراغ وهو ما لا يستسيغه واقع «الإنتاجية النصية»، وإما تواصل مع رفض الشكل التعبيري الجديد، ويبدو أن التواصل لا يعني بالضرورة تمثل النموذج في تمام شكله؛ بل استحضاره بما يتوافق وسياق الاطلاع وهضم معطيات المنجز الشعري العربي، فقصيدة النثر في سياق التواصل لا تعني إعادة إنتاج التجربة؛ بل الأهم تجاوزها داخل الإطار الجمعي الذي يحكم أصول الصنعة متمثلاً في الشعرية، فكل واقع ذاتي أو تجربة في العالم، تمنح تلقائياً طريقة انكتابها، ومن هذا الباب يمكن أن نفسر المقولة الدارجة في الوعي الشعري من أن القصيدة تكتب الشاعر.

وقد راح محي الدّين اللاذقاني في كتابه «آباء الحداثة العربية»، يفتّش في التراث عن أصول لقصيدة النثر، وتوصل إلى نموذج في طواسين الحلاج يمثل «الإرهاصات الأولى لقصيدة تتململ داخل قيدها الفراهيدي وتحاول أن تخلق شكلاً تعبيرياً جديداً»، ويمكن أن نفهم من كلمة تتململ، أنّ القصيدة بشكلها التعبيري وشرطها التاريخي لم تكن انزياحاً إلغائياً لما سبقها، ولكن كانت تَمَثُّلاً استحضارياً، بدلالة عدم قدرتها على الإنفكاك من ترسّبات التجربة الشعرية الغنيّة بمعمارها وتراكيبها الفنية وبنائها العروضي والإيقاعي واللغوي، الذي جعل منها نموذجاً فريداً غطّى على التّجارب الأخرى وشكّل اتجاها جوهرياً يصعب تجاوزه، ومن حيث هذا الجانب الإنجازي في صرح القصيدة العمودية، نجد أن التجارب الشعرية على مرّ التاريخ الثقافي العربي كانت عرضة لمثل هذا الانعطاف نحو المساس ببناء القصيدة، كما حدث عند ابن الرّومي في ثورته على التركيز، وثورة أبي تمام على الإستعارة، وثورة المتنبي على كثير من الدقة اللغوية والنّحوية كما يذكر إحسان عباس في كتابه «فن الشعر».

التّجديد النثراني/قصيدة الحداثة

إن هذه المحاولات التي سارت على درب التجديد في القصيدة العربية، والسير بها صوب أفق يستجيب للحظة الشعرية الموسومة بالمزاحمة المقولية وتعالقها بالعالم كفيض وجداني تأملي وليس كزوائد مزعجة، يخوّل للفهم أن يقرأ «قصيدة النثر كخلاصة غير نهائية لمكابدات فنية ووجودية هي فرصة الشعر العربي لقراءة جدلية أعمق لمعنى وكنه الشعر.»، بحسب رؤية محمد العباس في كتابه «ضد الذاكرة».

فقصيدة النثر لا تنفك تعبّر عن منحى حداثي إنتاجي لأدواته كافة التي تتوافق طبيعتها مع طبيعته التعبيرية و»الإنكتابية»، وتماهي الطّبيعتين في اندراج اجتماعي معيّن يخضع لهذا الشرط الإنقلابي في مناحيه كافة، ومن هذا المنطلق ترتبط كونية الشرط التعبيري الملازم لجدل التغيير بتوالدات اللحظة الحضارية، فالشاعر الإسباني غارثيا مونتيرو، يعزو التّغيير في البنيات التّعبيرية الى مفهوم السّرعة الذي حتماً ينعكس على الذات منجزاً آثاره الاستفزازية في لا عادي اللحظة الزمنية، بمعنى انشداد قصيدة النثر إلى «عمق التجربة الاجتماعية، وربطها بمتواليات ورموز الفعل الاجتماعي الجديد، كحاضن مادي لمتواليات الظاهرة»، كما يرى محمد العباس، وما التكثيف والرّمز الا نتاجات لعملية منخرطة في كون العلامات الذي يحكم سيرورة المعيش ويؤهّل شروط انوجاده، بمعنى أن قصيدة العمود في جانبها المعماري، تتمظهر بالفراغ الذي يفصل شطري البيت، وكأنّه عمود يشدّ قوام القصيدة، ولعله يعبّر عن بنية الفراغ المشكِّل لمحيط الشاعر ذي الفضاء الصحراوي الشاسع، وبالتالي يمكن بناءً على هذه الفرضية أن تكون قصيدة النثر المكثّفة من حيث الشكل والمضمون انعكاساً بنيوياً لعمق نفسي لا ينفصل عن شرطه الوجودي في العالم أو «الدازاين» بتعبير هايدغر.

لقد رفض أبونواس الرّبط بين القصيدة والبداية الطللية، بما يمكن أن يفتح النّقاش واسعاً بشأن ضرورات الإنتباه إلى المساءلات المباغتة لكمالات الوضع الشعري، فالشعر تجربة جمالية تستجيب فقط لطقسها الشعوري، وعندما نكف عن شعور الشعر، فإنّنا بلا شك سنعدم المسافات الجمالية التي تورّطنا في متاهات العالم المتأهّبة دوماً للإنفضاح، ولهذا يعتقد بورخس «أن الشّعر شيء يشعره المرء»، وكان يعلّم الشعر بوصفه بروفسوراً «معتمدا على الحدث الجمالي، كما يخبرنا في كتابه «سبع ليال».

نظام الشعر/شروط القصيدة

تخضع بالضرورة قصيدة النثر لشروط وأنظمة تتوافق مع المنهج التّنظيري المُنتج لنموذجها؛ إلا أن الكتابة الشعرية لا يمكن أن تخضع في كليتها لذات الشروط والقوانين التي تنبني عليها قصيدة النثر، والحال هذه، أي كونها أسّست لنفسها منهجاً تكسيرياً تجاوز نظام القافية والبيت، فلقد اوجدت بذلك أسساً أخرى ترفض الإذعان لمنطق الثبات، فكان الغموض من أهم المعطيات التي استفادت منها بنية قصيدة النثر، والغموض بخضوعه لشروط الانوجاد الراهن، ينتسب في طبيعته لما ألفه بعض الشعراء المعاصرين في شعرية الأقدمين؛ إذ نجد أدونيس في «زمن الشعر» يعرض جملة مميزات لاتجاه أبي تمام في الشعر، ويذكر منها المعنى غير المألوف والغموض والصورة الشعرية غير المألوفة ونقل اللفظ عن معناه المعروف، ويعتبر أن هذه الطريقة هي خروج عن عمود الشعر وليست خروجاً عن الشعر، ومعروف في تاريخ الشعر العربي أن هناك من الشعراء من حاول ابتكار أوزان جديدة كأبي العتاهية، وقال قولته المشهورة «أنا أكبر من العروض»، ومنهم من حاول الخروج على نظام القافية الواحدة، فأنتج قصائدا سميت المزدوجات كبشار بن برد.

تؤكد القرائن السابقة إمكانية عملية الإبداع داخل الإطار الذي يجمع الثقافة الواحدة دون أن يكون ذلك ضرباً من ضروب الإقتصار على ذات الشكل، فالنّمط التعبيري يحفّز الذات على إنتاج طرقها التعبيرية الخالصة من أي تابعية شكلية، وأدوات المنهج ألتفكيكي تقدّم التّبرير المنطقي لافتكاك الشكل المتاح في أفق الفيض المقولي (الكتابة)؛ إذ يرى جاك دريدا أن التفكيك لا ينبغي أن نفهمه «بالمعنى الذي يفيد الإنحلال أو الهدم؛ بل تحليل البنى المترسبة التي تشكل العنصر الخطابي أو الخطابية الفلسفية التي نفكر داخلها»، وبهذا المفهوم لا نفسّر انتاج قصيدة النّثر على أساس أنه بناء على أنقاض قصيدة العمود؛ بل هو انطلاق من تجلياتها التي لا يمكن أن ينفك المثقف العربي من إسار جمالياتها، وذلك الأثر هو المُفعّل لمؤسسة الإنتاج الشعرية الذاتية على إبداع شكلها الشعري الجمالي الخاص، فلا يمكن أن نبدع خارج مكوّنات ثقافتنا الجينية، وهو المراد من تفكيكية دريدا التي تزاول عملها من خلال المنظومة التي نفكر داخلها.

إن جدل الغموض ليس مقصوداً في ذاته، وإنما يُثار ليفنّد أقاويل الإلغاء والمصادرة على حق الآخر في استبطان التجربة الذاتية عبر سواقي يسري فيها الماء بخرير مغاير للمألوف، حينها يُوظَّف كآلية للإفصاح غير المباشر عن منحى ذاتي عميق، قد يكون من المفردات المبهمة لدى من لا تحركه طعنة الشعر اللذيدة.

ينطلق أدونيس في «زمن الشعر» من مفاتيح أساسية تناقش بعمق ماهية الغموض عندما لا يتحوّل إلى مجرد ترف فكري أو إبداعي، المراد منه تمييع مفهومه، وتسريبه كأداة هدمية تُستخدم في الصّراع الذي ينحو بالكتابة الشّعرية إلى سفولية المقول والشحاذة الشكلية المدمّرة للخلق والتجاوز، فهو يرى أن أدانة الغموض هي تبجيل للوضوح، ثم يفصل في هذا الجدل انطلاقاً من قيمة الشعر بالنسبة إلى الإنسان، فإن كان همّاً من هموم الذات الأساسية، فالغموض ليس بذاته نقصاً والوضوح ليس بذاته كمالاً، كما أنّ ذم الغموض لا يتجه إلى تجربة بذاتها، ولكن يشمل كل الشعر الحديث، وهو ما لا يستقيم مع معطيات البحث، لأن الشعر الحديث يتضمن مستويات متعددة للتجربة، أيضاً عندما نقول عن شاعر بأنّه حديث؛ أي أن بينه وبين الشعر القديم فرق، يحصره أدونيس في تبدلات الواقع الذي كان يَسِمُه الوضوح والبساطة قديماً، والذي أصبح يركبه التعقيد والتطور حديثاً؛ ما زلزل قناعات الشاعر الحديث، فتشكلت التجربة في رحم القصيدة الحال التي تقدّم للقارئ «فضاء من الأخيلة والصّور ومن الانفعالات وتداعياتها».

العقل الشعري والنص:

يبدو أن الحال التي يعاني منها العقل العربي تتمثل في إهمال حقيقة النص، وعدم تصنيفه ضمن مخطط المستويات التفكيرية، وبالتالي تتحكم في أولوياته النظرة التفضيلية التي تعطي الأسبقية للنص العلمي، بينما النّظرة الغربية عندما أسّست لما يعرف بالنص المتعالق (hypertexte)، لم تخصّص النوع، ولهذا فلتجاور النصوص أهميتها في إبداعية العقل الشعري، وهو ما يفسر قدرة العقل على الإنتقال بين حقول المعرفة المختلفة، ولهذا أيضاً كان العقل الموسوعي، فالعقل الشعري كما يرى ريشاردز في ما كتبه عن «كولردج والخيال» ونقلا عن «ألن تيت»، «في لحظات، يوفق إلى نظرة نافذة إلى قلب الحقيقة، فيقرأ الطبيعة رمزاً لشيء وراءها، أو شيء داخل الطبيعة لا ينكشف بالشكل العادي».

إن الإشكال المطروح في جوهره لا يتعلق بالشكل التعبيري، بقدر ما يكشف عن خلل بنيوي لا يقارب النص من حيث هو بنية دالة منتجة لأثرها؛ بل على العكس من ذلك يجازف العقل العربي داخل بوتقة تبئّر الاستخفاف بالثقافي، وتنفر من مغامرة الإنقداف في محيط الخلق الثقافي، الذي يبتكر آلياته من ذات مفردات النص المتاح والمعرّف على مشارف التفاعلية المنتجة، لهذا فالجدل يتورّط أساساً في النّظر إلى النص من حيث تمظهره الواقعي وليس من حيث كيفية إنتاجيته، ومن هذه الزاوية نقع على رؤيتين لمعالجة النص:

رؤية تحتفي بالنص من حيث أن كل نص يمتلك جمالية خاصة تتمثل في جمالية انخلاقه، ورؤية أخرى تزدري النص لفقدانها معيارية القيمة التي يمثلها المنتَج النصي

إقرأ أيضا لـ "عبدالحفيظ بن جلولي"

العدد 3202 - الإثنين 13 يونيو 2011م الموافق 12 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:41 م

      قصيدة النثر

      مفاد القول في هذا الجانب من منبى الرؤية هو أن قصيدة النثر على يبدو في تداول العديد من الدارسين قد أخذت مسارا خاطئا من حيث الدلالة والمرتكزات التي تعد عمادا على نشأتها وتكونها, وهذا لا ينطبق على الدارسين بل على من ادعوا أنهم هم من ظهرت معهم.

اقرأ ايضاً