ذكَرَ شهاب الدين بن محمد الأبشيهي في كتابه القيِّم المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف، أن عبدالملك بن عمير قال لبعض الناس: رأيت رأس الحسين (بن علي بن أبي طالب) بين يدي (عبيد الله بن) زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس بن زياد بين يدي المختار (بن أبي عبيدة بن مسعود الثقفي)، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب (بن الزبير بن العوام)، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبدالملك (بن مروان). فقال أحدهم: كم كان بين أول الرؤوس وآخرها؟ فقال اثنتا عشرة سنة.
هذه حكاية التاريخ المعاد بمشهده المحسوس، ويا لها من حكاية وعِظة لا تقدر بثمن. اليوم، وما نراه في عالمنا العربي من تغيير وأحداث وحراك سياسي واجتماعي هو بالضبط ما جرى لأمم قريبة منا وكأنه فيلم اسطواني قديم يُنفض عنه الغبار.
قبل أيام تحدثتُ بالعموم عن ذلك في مقال بعنوان: «مشكلة التغيير أنه حتمي» وعرّجت فيه على أوروبا بعد العام 1789م عندما حدث التبدّل الكبير في الأنظمة الرجعيّة الحاكمة بعد اندلاع الثورة الفرنسية. لكن في هذا المقال أحاول أن أصِف الأمور مثلما جرت في ذلك الأوان بجزئياتها ومدى مطابقتها مع حاضرنا الذي شَهِدَ تغييرات كبرى كالتي جرت في تونس ومصر واليمن والحبل على الجرار.
قبل 222 عاماً من الآن كانت أوروبا وأجزاء من آسيا محلاًّ للآثام التي ارتكبها حكام ظالمون بحق شعوبهم. كانت الثروات تصرَف على ملذات الحاكمين والعوائل المتشابكة معهم في المصالح، وهو ما نجده اليوم بالضبط في غالبية دولنا العربية. لكم أن تتصوروا أن بعض الأنهار ومجاريها كانت حكراً على أناس بعينهم. وكان أربعة آلاف من البريطانيين يمتلكون أربعة أسباع الأرض التي حَرَثها 250 ألف مزارع يُساندهم في ذلك مليون وربع مليون مستأجر وخادم.
وفي بروسيا كان ألفان من الإقطاعيين يمتلكون 61 في المئة من الأرض، في حين كان هناك مليونا عامل لا أرض لهم، فضلاً عما كانت تملكه الامبراطورة كاترين الكبرى والأرستقراطيون المتحالفون معها من أراضٍ شاسعة في الوقت الذي تعيش بجانبها أحزمة من الفقر، فهل يفرق هذا الحال عن أحوال عالمنا العربي اليوم في ظل التوزيع المجحِف للثروة؟ لا أعتقد.
لقد هيأت تلك الممارسات السلبية الأجواء لأن يحدث شيء كبير، وهو ما حَدَث فعلاً. وعندما حَدَث التغيير السياسي في فرنسا تغيَّر معه المحيط بلا استئذان حتَّى. بالتأكيد، لم يكن التغيير بالسرعة التي يتوقعها البعض لكنه، وبعد عشرة أعوام على انتصار الثورة الفرنسية ألغِي الإقطاع في غالبية أوروبا اللاتينية والأراضي الواطئة وسويسرا والغرب الألماني.
لقد تمَّ إلغاء نظام الأعشار الذي يُدفع بموجبه نصف الغلَّة أو المال للكنيسة وللإقطاعيين الجشعين. بل حتى الليبراليون الإسبان من الكورتيز، وهم أعداء الفرنسيين ما بعد الثورة، قاموا بالعمل ذاته مهابة منهم من التغيير القادم أو تأثراً به كما حصل للطغاة المستنيرين. هذا ما دوَّنه المؤرخون الأوروبيون عن تاريخهم ونقرأه نحن في هذه اللحظة علَّنا نعِي ما يحصل حولنا.
اليوم، وبعد أحداث تونس وسقوط نظام بن علي بدا أن التغيير أسرع مما كان في أوروبا، ربما سببه الرئيس هو ثورة الاتصالات الكبيرة التي حوّلت يوم ذلك الزمان إلى لحظة. فما بين سقوط نظامَي بن علي ومبارك شهرٌ أو بعض شهر. وما بين الأخير وجواره الليبي المهزوز بالزمن ذاته أو يزيد. وما بين هذا المهزوز والراقص على رؤوس الثعابين في اليمن (كما كان يصِف نفسه) زمن ممحوق. وما بين هذا وزعيم الشام الفترة ذاتها، والطاحونة مستمرة لا يُوقفها شيء. فتدافع الزمن وسطوة الأحداث فيه هي أكبر بآلاف المرات من قدرات البشر حتى وهم على كراسي الحكم.
ما يهم من كلّ ذلك هو فهم فكرة واحدة، وهي أن اللحظة تصرم سابقتها. وأن التاريخ إذا ما عاد فإنه يعود بمثلما جرى عندما كان حاضراً مُعاشاً، لتتكرر أحداثه مع الحاضر بالمطابقة الشديدة أو المتقاربة. وإن هذا الحاضر سيُذكر على أنه تاريخ في المستقبل، عندها سيقول التاريخ إن أمة من العرب حاربت وقاتلت وناهضت بِقِلّة عقل سُنن تاريخ مَن هم قبلها لكي لا يتكرر عندها ما جرى لِمَن سبقوها، فلم يُورثها ذلك سوى ذهاب الريح والأفول كما أفل القمر عن نبينا إبراهيم الخليل (ع). لقد كان الصحابي الجليل الأحنف بن قيس التميمي يقول: إن عجبت لشيء فعجبي لرجال تنمو أجسامهم وتصغر عقولهم
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3201 - الأحد 12 يونيو 2011م الموافق 11 رجب 1432هـ