ممّا حفظتُه عن والدتي (رحمها الله تعالى)؛ قصّة هادفة منسوبة إلى إبراهيم الخليل (ع)، جاء في القصّة: إن إبراهيم (ع) كان لا يحبّ أن يأكل إلاّ مع ضيوف، وكان يحرص على ذلك كلّ الحرص، حتّى إنّه كان يتصدّى لسبل الناس المطروقة ليحظى بضيف يضمّه إلى مائدته، وربما انتظر لهذا يوماً أو بعض يوم.
وفي أحد الأيام قصد إلى بعض الطرق ليجد ضيفاً يشاركه غداءه، فظفر بشيخ نيّف على الثمانين، وبعد الدَّعوة والتَّرحيب، وبعد أن جلسا إلى مائدة الطعام، خاطب إبراهيمُ الضيفَ قائلاً: يا أخِ سمِّ الله وتفضّل بالطعام. فنظر الضيف منكراً وقال: لكنّي لا أعترف بوجود إله حتّى أذكره. غاظ هذا الكلامُ إبراهيمَ، وعبثاً راح يحاول أن يقنعه بفساد مقولته، ولمّا استيأس منه أخذ الطعام من أمامه ودفعه خارج خيمته. وما أن خرج الرجل وآب إبراهيم إلى عزلته حتّى عاتبه الله تعالى على صنيعه مع الشيخ، وحاول إبراهيم أن يبرِّر أمام الربّ جلّ وعزّ بأنّ الرجل ملحدٌ لا يؤمن بالله، فقال له الله تعالى: يا إبراهيم، أرزقه منذ ثمانين عاماً وأنا أعلم به، وأنت ضِقْتَ عن إطعامه وجبةً واحدةً. فسارع إبراهيم وراء الرجل معتذراً، حتّى أدركه بعد مسافة طويلة، فتعجَّب الرجل وشرح له إبراهيم ما حصل، فقال الرجل: ربٌّ يعاتب عبده من أجل من ينكره ربّ كريم.
أسوق هذه القصّة لا لأناقش سندها إثباتاً أو نفياً، بل لأستفيد من العبرة التي وردت فيها بأسلوب إقناعيّ لا يضعفه أن تكون هذه القصّة غير ثابتة تاريخيّاً، وربّما ألّفها حكيم ليعرِض رأيه في قالب من الحوار، مستعيناً بالشخصيَّة المناسبة لحمل هذه العبرة وأدائها.
وكثيرة هي النصوص الدينيّة المؤيّدة لهذه العبرة، إن كان في معنى تكريم الإنسان بغضّ النظر عن انتمائه، أو في معنى تفويض حق الاختيار للإنسان دونما إكراه. فقال سبحانه وتعالى: «ولقد كرَّمْنا بني آدم» (الإسراء: 70). وهذه النصوص تسوقنا إلى قبول حقّ الآخر في أن يكون مختلفاً سواء في المعتقد أو في السلوك.
غير أنّ التاريخ والواقع يحملان صوراً كثيرة من إنكار هذا الحقّ للآخر والاحتفاظ به للأنا. فأنت لا يحقّ لك أن تخالفني، ولكن أنا لي كل الحقِّ في أن أخالفك!
ذلك أنّ الرافضين للآخر ولحقِّه في الاختلاف يلجلأون إلى نصوصٍ أُخَرَ ويجعلونها أدلّةً لمذهبهم؛ فيُضيِّقون سَعَةَ الدين، ويُشوِّهون سماحته.
وإزاء هذا الحاصل؛ فإنّ المسئوليّة الملقاة على عاتق النخب الواعية في المجتمعات تتعاظم، وعليهم أن يجهدوا ليبيّنوا لجمهور الناس أنّ حقّ الآخر في الوجود والاختلاف هو مساوٍ لحقّ الأنا فيهما، ودفاع الأنا عن حقّ الآخر يجب أن يكون تماماً كدفاعه عن حقّ الأنا سواء بسواء؛ فتكامل الإنسان مع أخيه غناء وقوّة، وتقاتلهما إفلاس وضعف.
ولا يكفي لإثبات هذا استحضار النصوص الثقافيّة دينيّةً وغيرَ دينيّة، بل لا بدّ من تعميم ذلك سلوكاً وثقافةَ حياة، ليُدرِك الإنسان أنّ مصيره مرتبطٌ بمصير الآخر رخاءً وشقاءً، راحةً وعناءً. إنّها مسألة تربية وتوجيه بقدر ما هي مسألة تعاليم وفلسفة. وتضافر الجهود بين الموجِّهين الدينيّن والمربّين من أهل ومعلّمين للتركيز على المساحات المشتركة بين بني البشر، وإنّها أكبر بكثير من ضيقات الاختلاف، عاملٌ مهمٌّ لكسب هذه الجولة.
ولا بدّ من الاعتراف بأنّ ما تعيشه المجتمعات من صراعات عنيفة، لا يخدم فكرة قبول الآخر، فلا يمكن للإنسان وهو يشعر أنّه مهدّد في وجوده وهويّته أن يتعامل مع الآخر باتّزانٍ وعقلانيّة، وينتج عن هذا الشعور ردّات فعل سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في توسيع هوّة الاختلاف وتغوير عمقها.
إنّ التعرّف على الآخر عن كثب ومخالطته سيكشفان أنّه يشبه الأنا، وأنّ الصراعات المريرة التي قامت على أساس الأنا والآخر خدمت في أكثر الأحيان، ولاتزال، أشخاصاً وصوليِّين، يفكِّرون بأشخاصهم، ولا يهتمُّون للأنا ولا للآخر؛ الأمر الذي سيُسهم في تحرير الأفراد بشكلٍ أو بآخر، ويجعلهم أقدر على التواصل والتعاون، وكلّما كان ذلك في مرحلة أبكرَ من حياة الفرد، كان مردوده أكبرَ
العدد 3200 - السبت 11 يونيو 2011م الموافق 10 رجب 1432هـ