عَرَفَ سُكَّان القطب المتجمّد والدول الاسكندنافية قيمة الشَّمس بسبب ما هُم فيه من بَرْدٍ قارص. وعَرَفَ أهل المناطق الاستوائية قيمة الثّلج لقيظٍ لاهِبٍ هم فيه. وعَرَفَ المرضى قيمة الصّحة لسَقَمِهِم، وعَرَفَ اليتيم قيمة الأب/ الأم ليُتْمِه ومكشُوفيّة ظهره. وعَرَفَ الفقير قيمة الغِنَى لفاقته وعُسْرِه. وعَرَفَ القصير قيمة الطول لمربوعيّة قامته. وعَرَفَ المَدِيْن قِيمة الصراح لدَيْنٍ يشدّ من رقبته صباح مساء. هكذا عُرِفت الأشياء وهكذا فهمها البشر.
في الأخلاق أيضاً (وهو مقال المقام) فقد عرف الإنسان مكارمها من خلال سفاسفها. فعَرَف الصدق بالكذب، والشرف بالدناءة، والشجاعة بالجبن والعلم بالجهل وهكذا دواليك. وإذا ما رامَ أحدهم أن يُدرِك أحوال أمَّة نظَرَ إلى أخلاقها، فهي مُحدد السلوك، وبها يأمن المجتمع على نفسه من نفسه، من خلال كبح جموح أفراده ومنتسبيه. اليوم ونحن مجتمعنا وقد أفسدته السياسة، ودبَّت في عروقه الأدواء الاجتماعية بسببها، وصار يرى نفسه وذواته مِللاً ونِحَلاً، بات من الضروري الرُّجوع فيه إلى الأخلاق التي بُعِث رسول الله محمد (ص) ليُتمّها. وللعلم، فإن الأخلاق كقيمة معنوية وسلوكية غير مرتبطة بدين أو مذهب أو قوم، فهي نظام للبشر، يسْتنُّ بها الواحد بالسليقة ثم بالمراكمة، فالمرء أصل كلّ ما يفعل كما كان يقول أرسطو.
كثيرة هي الشعوب التي قرِنَت بسلوكها. فقد عُرِفَ الهولنديون على أنهم أناسٌ حادّو الطباع، وأصحاب لغة مباشرة جافّة لا تترشّق بالدبلوماسية أو اللياقة الأدبية، وعُرِف عن بعض جيوب عرب الصحراء على أنهم أوعية للحقد، ثم تفهَّم البشر إلى ما تُعمِله الجغرافيا المفتوحة أو المغلقة من سلوك جاف أو رشيق على ساكنيها. وربما نالَنا نحن البحرينيون قسطاً من هذا وذاك. فقد كانت سِمتنا الدائمة أننا أصحاب قلوب مفتوحة، وسلوك أريَحِي. بل إنه وعلى مرِّ الزمان كانت الجاليات الوافدة إذا ما أرادت مجتمعاً مفتوحاً وآمناً في الوقت نفسه قَصَدت البحرين، وحطَّت براحلتها على أرضها. هذا ما بيَّنته تجارب التاريخ وأحداثه.
كثيرة هي البُلدَان التي زرتها (وزارها غيري أيضاً). وكثيرة هي المرات التي كنت أسمع فيها تلك الشهادة فأعتزّ بها. في الزيارات الرسمية أو الشخصية كان الجميع يقول الشيء ذاته. بل إن بعضهم كان يُفصح عن ذلك من تجربة عاشها هو أو أحد أقربائه. وربما كانت هذه البلاد على هذه الشاكلة من السماحة وسِعة الصدر لتأثرها بحضارات الشرق، فترى أن جزءاً كبيراً من ثقافتها وأكلها يتاخم أذواق تلك الأصقاع. يشهد التاريخ على أن هذه الأرض لم تكلِّف دعوة الإسلام سوى كتاب مُرسَل من نبي الأمّة (ص) لتعلن إسلامها طوعاً ودون قتال.
يُضاف على سماحة أرضها ما كانت تضمُّه هذه الخاصرة من الجغرافيا الأرخبيلية من مهابِط للعلم والمعرفة. فالبحرين ليست طارئة على العلوم والمعارف منذ القِدَم. وربما يُعرَف ذلك بتتبّع الباحثين للمخطوطات والكتب التي دوَّنها علماء بحرينيون، أو ممن استوطن بلاداً أخرى ومات وهو يحمل لقب ترابه الأوّل. وقد وقفت على أحدهم في حاضرنا وهو مُنكَبّ على إعادة التحقيق في تلك المخطوطات التي تجاوزت المئات في خامها الأول.
عندما عقد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية قبل خمسة أعوام ندوة عن أحد أعلام البحرين ممن عاش في القرن السابع الهجري وهو الشيخ ميثم البحراني بدا أن هذا الرجل هو محطّ أنظار علماء الإسلام منذ زمن سحيق؛ نظراً إلى إثرائه المكتبة الإسلامية بالأبحاث والدراسات الفلسفية. وعندما عقد المجلس ندوته الثانية قبل ثلاثة أعوام عن حياة القاضي الشيخ قاسم المهزع ظهر أن هذا العالِم قد ارتبطت به أحداث البلاد ومحيطها، وخصوصاً في مجال مكافحة التنصير وأحداث الداخل المرتبطة بالمستعمر فضلاً عن علوم الشريعة.
لذلك، فإن بلداً بهذا الانفتاح، وأهله مُستطابو المجالسة بهذا الشياع، وصاحب إنتاج معرفي قديم لا يُمكنه أن يستبدل كل ذلك بعكسه ومخالفته، حتى ولو كان يمرّ في ظروف صعبة. فقد علَّمتنا الظروف والأحداث عبر التاريخ أن المجتمعات تستعين بمخزونها المعنوي لمواجهة الأخطار. تصطدم ثم تنكفئ، فتترنح ثم تسقط ثم تنهض، لكنها في خواتيم الأمور تستعيد عافيتها من جديد. وأحسب أننا قادرون على ذلك فعلاً في القريب العاجل ومن دون أي تسويف
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3199 - الجمعة 10 يونيو 2011م الموافق 09 رجب 1432هـ
مقال جميل يريح النفس
قرأة مقالك الجميل وبعث في نفسي الراحة والعزة واود ان التاكيد على ان ما ذهبت اليه عن راي العامة من الناس حقيقة وكم كنت اشعر بالعزة عندما التقي صنوف من الناس وهم يشيدون بكرم اخلاق وبساطة مجتمعنا وحضارة ثقافتهولكثرة ولع الاخوة العرب بتلك الصفاة راح احد الاخوة الاعلاميين يبحث عن سر تلك الصفاة ونشر في مجلة جواهر الاماراتية عدد يونيو في صفحة ثقافة المكان مقال عن البحرين وثقافته تصدره خطاب رسول الله(ص) الى شعب البحرين.
هكذا كنا وينبغي علينا ان نصون هذه الثروة والاثر الحضاري.