«مازلنا نفكر في متنفس نلجأ إليه هرباً من صيف البحرين الساخن، ولكن تحديداً لا نعرف حتى الآن إلى أين». هذا لسان حال الكثير من البحرينيين هذه الأيام.
المشهد السياسي وإن بدا مطبقاً إلى حد كبير على نفسيات المواطنين، فإن الأمل مازال يحدوهم إلى فرصة سانحة يروّحون فيها عن عناء سنة كاملة، تخللتها أيام صعبة، فضلاً عن حاجة الأبناء إلى بعض الاستجمام والاسترخاء الفكري عقب توتر الامتحانات الذي يلقي بظلاله غالباً على العائلة بأكملها.
فإلى أين يتجهون؟ سؤال يبدو في تركيبته روتينياً يُطرح على مشارف كل إجازة صيفية، غير أن الأمر هذه المرة يشوبه كثير من الاختلاف.
بنظرة خاطفة إلى ما جرى حديثاً خلال المؤتمر الصحافي للرئيس التنفيذي لطيران الخليج سامر المجالي، يمكنك أن ترصد الهواجس الكامنة لدى مسئولي الطيران من خسائر هذا الصيف، فما بالك بالبحرينيين أنفسهم؟
«طيران الخليج» التي خرجت عن صمتها مؤخراً، محمّلة الحكومة البحرينية مسئولية تفاقم خسائرها بسبب توقف ربع خطوطها الجوية، لفتت الأنظار بجرأة رئيسها التنفيذي الذي قال إن الأوامر الحكومية بوقف تسعة خطوط جوية للعراق وإيران، إضافة إلى لبنان (الذي عادت إليه الرحلات مؤخراً) أدت إلى «تعاظم خسائر الشركة». وكشف حينها أن هذه الخطوط تمثل ربع شبكة الشركة، ومن أكثر الخطوط ربحية. وأن طيران الخليج خسرت أكثر من 250 ألف تذكرة منذ بدأت الاحتجاجات في البحرين منتصف فبراير/ شباط الماضي نتيجة إلغاء الحجوزات.
وفي الوقت الذي ذكر فيه المجالي أن «الحكومة وعدت بتقديم دعم مالي للشركة لتعويض خسائرها»، فإن ذلك - وإن اعتبرته الشركة مخرجاً للملمة خسائرها - لا يراه البحرينيون حلاً لمشكلة حرمانهم من وجهات سفر اعتادوا قضاء إجازاتهم الصيفية فيها.
الناس العاديون ربما يضيق بهم الأفق وتعقيدات الجو العام فيتقهقرون رضوخاً لواقع الصيف وحرارته اللاهبة، ويلجأون إلى الاختباء خلف هواء المكيفات في منازلهم، لعلها تهوّن عليهم سخونة الأجواء. أما شركات الطيران والشركات السياحية وحملات السفر فمهمّتها عدم الاستسلام، حتى وإن كلفها الأمر المجاهرة بصوتها، لأن ما تكبدته من خسائر لا يمكن تعويضه بالسكوت والقبول بالأمر الواقع، لذلك فقد أخذت غالبيتها بالبحث عن بدائل تقوّي رصيد مدخولها المالي الذي ربما يغطّي بعض العجز مما عانته منذ فبراير الماضي.
كان متوقعاً أن تحذو شركات الطيران هذه الخطوة، في ظل وقف خطوط جوية حيوية، إذ بادرت بعضها إلى فتح خطوط أكثر قبولاً لدى البحرينيين، وأكثر قرباً لميولاتهم، وأكثر ملاءمة مع أوضاعهم المالية، وهو ما قامت به على الأقل شركتا «العربية للطيران» و»طيران الخليج» خلال الأسابيع الأخيرة، فالأولى أعلنت في خطوة استباقية مضاعفة عدد رحلاتها الأسبوعية إلى مدينة اسطنبول التركية، معللة اختيارها بأنه يأتي «تماشيا مع زيادة الطلب الموسمي على خدمات الطيران الاقتصادي إلى أكبر مدينة في تركيا، التي تعد أيضا العاصمة الثقافية للبلاد»، وقالت إنها ستسيّر الآن 4 رحلات أسبوعية إلى اسطنبول.
أما الثانية فلم تفوّت الفرصة وبادرت هي الأخرى بإعلان مماثل مؤخراً عن تسيير 4 رحلات بين اسطنبول والبحرين أسبوعياً. واعتمدت الشركتان أسلوباً تحفيزياً للمسافرين يقوم على الترغيب وطرح بعض المميزات (البديلة) التي تلفت الأنظار إلى الجهة التي يتوقع أن تكون الأكثر استقطاباً في هذا الصيف.
هذه المحفزات لم تغب كذلك عن بال أصحاب حملات السفر في البحرين، الذين سئموا من محاولات عبور جسر الملك فهد دون جدوى، فقرروا اللجوء إلى السفر جواً وابتكار جهات أخرى بديلة، هذا إذا لم يلاقوا ما لاقوه براً من تعقيدات لأسباب مازالت «مبهمة وانتقائية» على حد قولهم.
وعلى الخط نفسه تسير محلات التجزئة في البحرين، وهي التي كانت تشهد انتعاشاً كبيراً كلما دق جرس انتهاء الامتحانات الدراسية وبدأت عطلة الصيف. فالمدرسون العرب والأجانب وعوائلهم يقبلون بطبيعة الحال على التزود من الأسواق البحرينية وشراء الهدايا والتحف قبل التوجه إلى ديارهم، وهو ما يُحدِث حراكاً حيوياً في السوق البحرينية سنوياً، وخصوصاً لدى محلات التجزئة تلك.
وفي حين توقع رئيس لجنة قطاع التجزئة والسوق القديم بغرفة تجارة وصناعة البحرين جواد الحواج، في تصريح صحافي أن «عودة الأمن والاستقرار ستساهم في إرجاع الحركة إلى محلات بيع التجزئة مجدداً»، فإن الوضع يبدو أقرب إلى التذبذب، إذ إن عدداً من التجار (الصغار خصوصاً) مازلوا يشكون الركود الذي تفاقم منذ 3 أشهر ومازال جاثماً حتى الآن.
وعلى رغم ذلك فإن الحوَّاج يبدو أكثر تفاؤلاً ويرجّح «عودة الإقبال بشكل قوي على محلات التجزئة خلال الفترة المقبلة، وخصوصاً أن الكثير من المواطنين سيغادرون البحرين خلال فترة الصيف، ما سينعش الحركة على محلات التجزئة بنسبة 60 في المئة».
ليس خفياً أن وتيرة السفر كانت ستتضاءل حتماً مع تصاعد الأزمة الأخيرة في البحرين لعدة أسباب، لكن المهم أن البيانات الرسمية كانت أكثر وضوحاً في هذا الجانب، حين كشفت عن «انخفاض أعداد المسافرين عبر مطار البحرين الدولي في شهر أبريل/ نيسان الماضي بنسبة 22 في المئة مقارنةً بالشهر ذاته من العام 2010»، كما لفتت إلى أن «إجمالي أعداد المسافرين خلال شهر مارس/ آذار الماضي وصل إلى 568.1 ألف مسافر في مقابل 732.8 ألف مسافر في مارس 2010».
الانخفاض الملحوظ في أعداد المسافرين، الذي أقرت به شئون الطيران المدني في البحرين مؤخراً، من الأكيد أنه سيكون عاملاً محفّزاً للدولة من أجل التفكير في تخفيف التعقيدات الحاصلة حالياً ورفع المنع عن بعض الخطوط المرغوبة، والتشجيع على تسريع وتيرة السفر من أجل إنعاش الاقتصاد البحريني، وهذا ما بدت ملامحه في تشغيل الخط الجوي إلى لبنان قبل أيام، وهو ما يأمل الكثيرون أن يشمل بقية الخطوط، وخصوصاً إذا لم تثبت عملياً أن هناك أية خطورة أمنية في حال تشغيلها.
والأمر لن يختلف كثيراً مع الشركات السياحية وشركات الطيران التي من المتوقع أن تستفيد من الأرقام المطروحة من أجل الضغط على الحكومة للبحث عن مخارج عملية لمشكلة «انخفاض المسافرين» الذي يضر بها في المقام الأول، وخصوصاً أن الإحصائية الرسمية حديثاً تشير إلى انخفاض حركة الطيران في شهر أبريل 2011 بنسبة 9 في المئة مقارنةً بالشهر ذاته من العام الماضي، كما بلغ مجموع عدد الرحلات الجوية 7929 رحلة مقارنةً بـ 8669 رحلة.
يجمع عدد من المراقبين على أن الأحداث الأخيرة في البحرين هي مكمن السر في تراجع وتيرة المسافرين، إذ إن عدد المسافرين القادمين إلى البحرين في أبريل بلغ 272.1 ألف مسافر، فيما بلغ عدد المغادرين 275.6 ألف مسافر، ما أحدث تراجعاً بنسبة 22 في المئة، وبلغ عدد مسافري «الترانزيت» الذين عبروا البحرين 20.4 ألف مسافر بتراجع بلغت نسبته 28 في المئة.
وعلى رغم ذلك لا يخفي المراقبون تفاءلهم بعودة أعداد المسافرين إلى سابق عهدها مع العودة الفعلية للأمن والاستقرار في البحرين وتدشين مرحلة الحوار, معتبرين أن ذلك يبقى مرهوناً بمدى قدرة الحوار الوطني على لم الشمل وتهدئة الأجواء وحلحلة الملفات المطروحة بصورة منصفة ما يبعث على طمأنة جميع الأطراف لكي تعاود عجلة الاقتصاد حركتها الدؤوبة.
وفيما يروّج البعض في المنتديات صراحة لضرورة مراعاة ظروف العوائل التي تعرض معيلوها للوفاة أو الاعتقال أو الفصل من العمل خلال الفترة الماضية، وتوفير مبالغ السفر لمساعدتها، ردّ آخرون بأن التضامن والمساعدة لا يمنعان من الحاجة إلى الراحة والاستجمام عبر السفر إلى العتبات المقدسة والأماكن السياحية الأخرى، وخصوصاً بعد ما شهدته المملكة من أوضاع مضطربة تعبت على أثره نفوس الكثير من المواطنين من كل الأطراف التي تود للبحرين كل خير وامن واستقرار.
وبحسب دراسة سابقة قام بها مركز البحرين للدراسات والبحوث (الذي تم حلّه رسمياً قبل عام)، فإن الأسواق في الدول التي يسافر لها البحرينيون تستقطب ما نسبته 34 في المئة منهم، ثم الاسترخاء في المناطق الساحلية على الشواطئ ما نسبته 32 في المئة. ويأتي التعرف على الأماكن الأثرية وزيارة المعارض والمتاحف في مرتبة أدنى في سلّم اهتمامات المواطنين المسافرين. ووجدت الدراسة أن معظم أفراد العينة يسافرون لمدة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع.
وأوضحت الدراسة حينها أن نفقات سفر 56 في المئة من المسافرين في عينة الدراسة تصل إلى 2000 دينار. منهم 29 في المئة ينفقون 1000 دينار وأقل، و27 في المئة ينفقون من 1001 إلى 2000 دينار. أما عن مصادر تمويل السفر فقد وجدت الدراسة أن غالبية الأفراد يعتمدون على مدخراتهم المالية (62 في المئة) أو الاقتراض (20 في المئة). ولم يفصح 26 في المئة من عينة الدراسة عن الموازنة المرصودة لسفرهم.
وبحسب الدراسة، يسافر 74 في البحرين من البحرينيين المشمولين في الدراسة مع عائلاتهم لقضاء إجازة الصيف، مقابل 15 في المئة يسافرون بمفردهم، في حين سيسافر 10 في المئة في مهمات دراسية، و1 في المئة فقط مع أصدقائهم». كما تحول الارتباطات الوظيفية أو عدم توافر المال اللازم دون سفر 48 في المئة من عينة الدراسة، ومنهم من لا يفكر بالسفر من الأساس، وخصوصاً في ظل الظروف القائمة.
على الصعيد الداخلي، وهو الخيار الآخر لمن يعجز عن السفر أو تمنعه الظروف من ذلك، لم تعلن عشرات المراكز والمؤسسات الأهلية حتى الآن عن برامجها الصيفية التي تعودت طرحها سنوياً من أجل تعويض الأبناء عن السفر واحتوائهم وتنشيط المواهب. وعلى رغم أن غالبية الطلبة أنهوا امتحاناتهم النهائية لم يشهد الشارع حتى الآن إعلانات عن فعاليات الصيف على المستوى الأهلي الذي يحظى بمشاركة كبيرة وكثيفة في كل عام.
وفي ظل الصمت المطبق و«تواري» عدد من الشخصيات الفاعلة
العدد 3199 - الجمعة 10 يونيو 2011م الموافق 09 رجب 1432هـ