العدد 3198 - الخميس 09 يونيو 2011م الموافق 08 رجب 1432هـ

ثورة القهر والشباب والإعلام

نوال السباعي comments [at] alwasatnews.com

.

تعتبر هذه الثورة التونسية المجيدة، مؤشراً بالغ الأهمية على تغيير حقيقي في الساحة الشعبية والاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية، ودليلا قاطعاً على أن التغيير قادم لا محالة، وعلى أن الأجيال الجديدة من شعوب المنطقة، والتي ولدت في ظل أنظمتها الطغيانية القمعية، ولا تعرف غيرها، هي الأجيال التي ستحمل راية التغيير هذه، وبأساليب سلمية جديدة كل الجدة على هؤلاء الطغاة، الذين ألِفَهم الجيل القديم وألِفوه، فلا يملك إلا الصمت عنهم والصبر القبيح على أفعالهم الشائنة، أو تفجيرهم وتكفيرهم، ولا يملكون إلا سحله وتكميمه، أو شنقه و نفيه.

إنها أجيال جديدة ظنّ الطغاة أنهم تمكنوا منها في مسيرتهم للقضاء على الذاكرة الجماعية للشعوب، وتمويه الحقائق، وتزييف الباطل، ونسوا قضيتين حيويتين، أولهما أن الشعور بالكرامة هو فطرة لدى الإنسان، لا تتعلق بمحو ذاكرة الشعوب أو إثباتها، وأن مطلب الحرية قد يتفوق وكثيرا لدى الشعوب على مطلب الخبز والأمن، لأنهما أصلا مرتبطان به، ارتباطا وثيقا لا ينفك ولو ظن الطغاة غير ذلك.

كانت هذه هي اللعبة حتى يوم الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني، هذا اليوم الذي لا يشكل علامة فارقة في تاريخ تونس وحسب، ولكن في تاريخ المنطقة، التي لم تشهد شيئا مماثلا منذ سقوط الخلافة، ودخول المستعمر الأوروبي أرضها ليعمل فيها أقلامه ومقصاته كما أسلحته الذكية والغبية تركيعا وتفتيتا، وليتركها منطقة مشاعا لنظرياته، ونظرته إلى الآخر غير الأوروبي، الذي يجب أن يبقى ذليلا متخلفا خانعا مخدوعا بدعاوى الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بالضبط كما يخدع كبراؤه مواطنيهم أنفسهم بهذه الشعارات عينها ليموهوا بها حقيقتهم الاستعمارية الاستئصالية، وتدخلهم في حياة الآخرين، وغزوهم، واغتصاب ثرواتهم، والهيمنة عليهم.

لقد جاءت هذه الثورة الشعبية التونسية على إثر قيام ذلك الشاب البوعزيزي بإحراق نفسه، ومثله وقبله العديد من شباب تونس ممن فرضت السلطات تعتيما على أنباء انتحارتهم، انتصارا لكرامته، ومطالبة بحقه في الحياة، لقد أشعل النار في نفسه أحد أبنائنا يأسا وقهرا، فأشعل في نفوسنا جميعا نار الثورة، لأن نيران الثروات تشبه نيران القهر مع فارق صارخ، وهو أن القهر قد ينتحر أما الثورة فإنها تنفجر، لا أتحدث عن تلك الانفجارات الخطأ في الأزمنة الخطأ والأمكنة الخطأ، ولكن عن ذلك الغليان الشعبي الذي يتدفق من فوهة البركان عظمة وعنفوانا، ترغم الطبيعة ان تشق له الطريق ليمضي نحو هدفه، من دون أن يتجرأ شيء على الوقوف في وجهه. لقد كان حدث محاولة الانتحار حرقا، اعتراضاّ وإنكاراّ وإعلاء لصوتٍ يريد الجميع خنقه، كان حدثا استثنائيا فريدا، وغير قابل للتكرار من حيث عنصر المفاجأة والانقضاض على الضمير العام، ومن حيث ملابساته الشعبية والثورية في المنطقة العربية، لقد رمى البوعزيزي في وجوهنا مسئوليتنا عنه وعن أقرانه، مسئوليتنا عن الشباب الذي يحترق من دون انتحار، والذي يشوى على نيران القهر ببطء وصمت، ولا يفهم أحد عنه ما يريد، لا الحكومات المرتهنة الإرادة، ولا القيادات السياسية اللصوصية، ولا الحركات الدينية التي بقيت في الوراء، متخلفة عن فهم هموم الشباب وواقع المجتمعات التي تئن، ومتطلبات المرحلة الخطيرة في المنطقة العربية.

هكذا جاءت ثورة شباب تونس، ثورة متفردة في المنطقة العربية، لا أظن أن مجتمعا آخر في المنطقة يمكنه أن يفرز مثلها في القريب العاجل - على الأقل -، لعدة أسباب، تتعلق بطبيعة البناء الداخلي للمجتمع التونسي، والدولة التونسية، والجيش التونسي، ويكاد يكون للنظام المخلوع شطر الفضل في هذا، ولا يجب أن تعمينا فورة المشاعر عن الاعتراف بذلك، على رغم كل ما يمكننا أن نصف به نظاما مستبدا مجرماً أخطبوطياً والغاً في دماء الناس وكرامتهم، مثل نظام بن علي.

أولا: التركيز على محو الأمية والعناية بالجامعات والعلم بين الشباب، تقليداً للنموذج الغربي الذي كان النظام مهووساً في مقاربته والتباهي به أمام مرجعياته، ناسيا أن هذا النموذج له استحقاقاته الإنسانية والاجتماعية والسياسية باهظة الثمن.

ثانيا: لقد شهد المجتمع التونسي عملية تغيير قِيَمي كبيرة جدا، كان لها أثر في تغيير كثير من القيم السلبية في الثقافة السائدة في المنطقة العربية، ثقافة مهترئة لا تخطئها القلوب ولا الأبصار، ساهم النظام التونسي البائد من حيث يدري أو لا يدري وأثناء حربه الضروس على الإسلاميين، في تخليص المجتمع من آثارها الضارة من دون أن يستطيع تغيير شيء من أسس الثقافة الايجابية السليمة المترسخة في قلوب الجماهير الشابة، وساهم هذا في بناء مجتمع جديد بثقافة جديدة، لا يستمد فيها الإنسان العون من عالم الغيب إلا بقدر ما ينْصَبّ جهده في الفعل على عالم الشهادة، وهذه معادلة شبه غائبة أو مغيبة عن معظم المجتمعات العربية، التي ركنت للظالم ومارست واستمرأت الظلم، وأصابها الوهن فظنت أن السماء تمطر ذهبا وفضة وحرية وكرامة بشكل مجاني أو... دموي.

وثالثا: موضوع الجيش، لقد أسدى النظام التونسي البائد إلى شعبه واحدة من أعظم الخدمات، وذلك من خلال تأسيسه جيشا قويا سليما، لم يكن عقائديا، ولم يكن متشكلا من مجموعة من المرتزقة هدفهم حماية النظام، ولم تجرثمه التشكيلات الطائفية أو الحزبية، وضعته الدولة في خدمة الشعب، فكان مع الشعب في تشجير الصحراء، وفي معركة النظام والنظافة والبناء، كما كان معه في تلك الساعة العصيبة التي قرر فيها هذا الشعب أن ينهي ذلك الحكم الذي لم يعرف كيف يكرم نفسه وشعبه، فخنق نفسه بنفسه في مستنقعات الفساد على يد عصابة السراق – على حدّ تعبير الشارع التونسي - وأضاع فرصته في دخول التاريخ من أوسع أبوابه.

انتشار العلم، وتنظيم المجتمع وإعادة تربيته، وموقع الجيش في خدمة المجتمع، ثلاثة دعائم رئيسية لثورة بيضاء نظيفة، لم ترتكب فيها الجماهير أعمالا شائنة ولم تسفك فيها دماء بريئة أو مذنبة، وإنما قامت بهذه المهمة فلول السلطة البائدة، في محاولات مستميتة لإحلال الفوضى، وتدمير منجزات الشعب، لعله يستجير بالظالم فيعيده مُكَرما، من حيث خرج فارّاً، أضف إلى ذلك مجتمع ذي بنية تحتية في غاية التماسك، ومنظمات مدنية منضبطة فعالة، وأحزاب في المعارضة أجادت التواصل مع الشعب، ومعارضة في المنفى كانت قادرة دائما على إحداث حركات تصحيح متواصلة، الإسلامية منها والغير إسلامية.

ويأتي مع هذه الأسباب مجتمعة، الدور الكبير جدا للإعلام، الذي بدأ من كاميرات الهواتف المحمولة لشجعان تونس الذين لم يأبهوا بالظالم، ولم يلتفتوا إلى تهديده، فراحوا يصرون على أن يطلع العالم على ثورتهم الشعبية بصورة حية ومباشرة، ثورتهم الشعبية التي أصبحت وستبقى علامة فارقة في واقع ومستقبل المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، ولا يمكن لأحد أن ينكر الدور الرائد والكبير والرئيسي والشجاع جدا للقنوات الفضائية المستقلة وبالاسم قناة الجزيرة الإخبارية في قطر، ثم قناة الحوار وال بي بي سي والعربية في لندن، دور لابد من الوقوف كثيرا عنده، ودراسته بالتفصيل البحثي التوثيقي، حيث أوصلت صوت الشعب المقهور المجروح الذي لم يستطع احتمال أن يحترق أحد أبنائه قهرا، لم تشعل الجزيرة فتيل الثورة كما ادعى الطاغية في اول خطاب له، كل ما قام به شرفاء الجزيرة كان أن وقفوا مع الحق، فأوصلوا الصورة والكلمة إلى جماهير هذه الأمة، التي وقفت بقلوبها ومشاعرها مع شعب تونس، بل وخرج كثير من شرفائها – الذين يستطيعون الخروج - للتعبير عن دعمهم ووقوفهم مع الشعب التونسي الذي أعاد للأمة وجهها المشرق، وللإنسان ثقته بنفسه، وللمنطقة الأمل الواسع بقدوم التغيير لا محالة.

لكن دور الجزيرة لم يقتصر على ذلك، فلقد أوصلت صوت الشعب التونسي إلى المحافل العالمية التي أصيبت بالخرس، كما أصيبت ادعاءاتها العريضة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بمقتل، لقد صمتت أوروبا التي اعتادت نشرات أخبارها إيراد خبر كل «ذبابة مضطهدة» في أرجاء العالم، صمتت صمت القبور عما يحصل في الضفة المقابلة لضفافها التي يموت شبابنا وهم يحاولون الوصول إليها بحثا عن شيء من كرامة، صمتت، وفي أرضها ملايين المغاربة والتوانسة والليبيين والجزائريين ممن يتميزون غيظا وقهرا، فلم تراع مشاعرهم ولا حتى بخبر يُطيب خواطرهم عن ثورة حقيقية تدور في أرضهم الكريمة، صمتت أوروبا لأنها لم تملك أبدا إلا الصمت والجحود ومساعدة الطغاة على شعوبهم، ودعمهم للاستمرار في قهرها وتركيعها، الصمت والتشويه والتمويه كان سلاح أوروبا الدائم المشهور في وجه كل خبر أو حركة أو إنجاز إيجابية في منطقتنا.

صمتت أوروبا لأن المفاجأة عقدت ألسنتها الطويلة، ولأن أجهزة استخباراتها لم تكن في سرعة الفعل الشعبي التونسي، ولأن أجهزة مخابراتها الذكية لم تكن على مستوى الحدث، حتى تطوقه وتركبه وتلتهم ثورة المقهورين.

لا نتوقع... ولا يمكن لعاقل أن يتوقع أن يكون نقل السلطة في تونس سهلا ليناً، وألا تكون هناك تحديات خطيرة وكبيرة ومكلفة أمام الشعب التونسي في ثورته النظيفة الرائعة المبهرة هذه، ولكننا على يقين بإذن الله من قدرة كل الأطراف في تونس على الوقوف في وجه كل من يحاول إجهاض ثورتهم، وهم كثر كثيرون، من أولهم وإن كان من أشجعهم وأصدقهم، كما أننا على يقين من أن الشعب التونسي العظيم سيوفق لتكليف من يرى فيهم القوة والأمانة للنيابة عنه في تسيير شئون البلاد.

أخطأ كل الخطأ من قارن هذه الثورة بثورة الضباط الأحرار في مصر، لأنها لا تشبهها في شيء، إنها ثورة شعب لحقت به قياداته، وليست ثورة أفراد يتسلطون على رقاب العباد ليسوقونها باسم الشعب إلى حين وحيث تنتفخ جيوبهم وأوداجهم، إنها ثورة فريدة غير مسبوقة في أمتنا ومنطقتنا هذه الثورة التونسية الشعبية.

حياكم الله أيها التوانسة الكرام، حياكم الله من شعب قوي مناضل أمين، لقد رفعتم رؤوسنا، وبيضتم وجوهنا، وملأتم قلوبنا بالأمل الذي طالما كتبنا من أجله، ورويتم أرواحنا بعبق المستقبل الجميل، مستقبل منطقة تمور بالظلم والقهر، وتتطلع اليوم إليكم من محيطها إلى خليجها لتتعلم منكم الدروس العظيمة، كيف تكون الثورات، وكيف تكون الحياة، وكيف يستطيع شعب أن يصنع التغيير دون سفك دماء، ولو كان الطغيان مستعدا لسفك دماء كل أبناء هذا الشعب ليبقى ملتصقا بكرسيه

إقرأ أيضا لـ "نوال السباعي"

العدد 3198 - الخميس 09 يونيو 2011م الموافق 08 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً