بعد مرحلة صمت رهيبة مرت بها الشعوب العربية تخللتها محاولات هنا وهناك للإشارة إلى وجود خلل في نظام الحكم في أكثر من بلد عربي من استشراء الفساد والقمع وكبت الحريات العامة والفردية، وبعد أن شبعت شعارات مؤدلجة وخطابات نارية مفتعلة وادعاءات منافقة بتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة وبعد أن حدثت ثورات وانتفاضات في دول المنظومة الاشتراكية السابقة وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي السابق وتحولت إلى تسمية - روسيا - وبعد تطور التكنولوجيا الحديثة وانتشار الفضائيات والانترنت ببرامجها التفاعلية ومواقعها ومدوناتها التي تفسح مجالاً واسعاً لحرية التعبير السياسي، وكذلك الهواتف المحمولة والتي سميت بثورة التكنولوجيا؛ أقول بعد كل هذه التطورات والتراكمات الاحتقانية التي تفاعلت مع الوسيلة التكنولوجية القادرة على حمل هموم هذه الشعوب وكشف أستار الاستبداد والمستبدين، استفاقت الشعوب العربية من نومها الكهفي العميق لتبدأ مرحلة جديدة يسميها المفكر التونسي المنصف المرزوقي الاستقلال الثاني، وهذا ما حدث فعلاً في تونس ومصر وكذلك ما يحصل في ليبيا واليمن إضافة إلى محاولات أخرى في بعض الدول العربية.
إن الكثير من المثقفين مارسوا لعبة النِّفاق والانتهازية والانتفاع من السلطة طيلة خمسين السنة الماضية وكانوا نخبويين إلى درجة كبيرة ولم يستطيعوا مقاربة هموم وأوضاع الشعوب العربية ومعرفة أو استشعار نبضها المناهض للاستبداد والقهر والفساد، ولقد تحول اهتمام الشعوب العربية إلى الشئون الداخلية من تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وتراجعت لديها الهموم الخارجية إلى الدرجة الثانية بعد أن فشلت الأنظمة العربية في ترجمة شعاراتها إلى أرض الواقع.
إن اللحظة التاريخية الراهنة هي لحظة مفصلية مهمة وحساسة ونحن أمام تحول كبير وهائل بانتقال الأنظمة العربية إلى الديمقراطية المناسبة للوضع الاجتماعي للشعوب العربية، وكل هذا سيؤثر على القوى الدولية ليفرض عليها رسم سياسات جديدة بالرضوخ لإرادة الشعوب العربية وفصم العلاقة مع الأنظمة الاستبدادية التي لم تعُد تملك أية مشروعية شعبية أو دولية. إن الثورات العربية قد شكلت صدمة للكثير من القوى الإقليمية والدولية وكذلك قلبت حسابات الكثير من المراقبين والمحللين وكذبت تحليلات وشروحات وتفسيرات الكثير من الإعلاميين الذين ربطوا كل ما يحدث في العالم العربي بالتحديات الخارجية مغمضين أعينهم عن التحولات العميقة تحت سطح قشرة الواجهات الاستبدادية.
إن الاستحقاق التاريخي الذي ستناله الشعوب العربية استحقاق ضخم والخارطة السياسية ستتغير بصورة سريعة وفاعلة، هذا الاستحقاق يأتي بعد مخاض عسير للأغلبية الصامتة التي صمتت طويلاً لكنها قالت كلمتها جسداً محروقاً لبوعزيزي الذي سنجد له صوراً وتماثيل وكتابات عنه كمشعل للثورة العربية الحديثة، ثورة الاستقلال الثانية ثورة التغيير والحداثة والتنمية والحرية وانطلاق الإعلام المعبر عن تطلعات الشعوب العربية إلى التحول والتطور الواثق المصمم للحاق بركب الحضارة العالمية بكل قوة وتوازن وجدارة
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3198 - الخميس 09 يونيو 2011م الموافق 08 رجب 1432هـ