العدد 3194 - الأحد 05 يونيو 2011م الموافق 04 رجب 1432هـ

إذا قسا القلب قحطت العين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما تتقاتل الطوائف يخسر الجميع على حد سواء. في كلّ أنواع الاحتراب يظن الخصمان أن كلّ واحد منهما سيقضي على الآخر، لكنهما يفشلان في غرَّة اقتتالهما حتى ولو كان ميزان القوى مختلاً إلى حدّ المَيَلان التام. فالخصم في هذا الصراع أشبه بمَن يقف أمام مرآة يُطاوِحُ نفسه بيده أو بسيفه. يتراءى له أن من يُقابله هو خصم سيقدر هو على إيذائه جرحاً أو قتلاً أو انتصاراً عليه شروداً وانهزاماً، لكنه يكتشف لاحقاً أن ذلك الخصم هو بمثل حركته تماماً. يُبادله الضربات والسقوط والنهوض والنظرات من دون أن يموت أو يفنى. إنها باختصار حرب شبحيَّة.

لنرجع إلى الوراء قليلاً حيث دروس الأحداث اللصيقة بنا. فقد دمَّرت الحرب الأهلية لبنان طيلة خمسة عشر عاماً حتى أصبح بلداً عاقراً في السياسة، لكن الدّروز فيه بقوا وهم لا يزيدون على 6 في المئة من الشعب اللبناني فقط بالضبط مثلما بقي المسيحيون وهم يُشكلون 40 في المئة من سُكَّان لبنان وكذلك الشيعة والسنة وهو يُشكلون مجتمعين 60 في المئة من اللبنانيين. هذا تاريخ قريب منا لا يزيد عُمره على عشرين عاماً، وقد أدركَته غالبية الفتوّة العربية الحاضرة. أما ما دوَّنه التاريخ البعيد فإن بطون الكتب زاخرة بأمثال ذلك وأكثر إذا ما نفِضَ عنها الغبار.

اقرأوا التاريخ الإيرلندي جيداً. فعندما تبارى البروتستانت مع الإنجليز والاسكوتلنديون مدعومين من امبراطورية الإليزابيث في لندن على اضطهاد الكاثوليك في الجنوب الشرقي من الجزيرة الأيرلندية وفي ألستر الشمالية تداعَى المضطهدون إلى ابتلاع الضربة والنهوض في أشرس تحرك لهم في العام 1641م لاسترجاع ما نهِبَ منهم بالقوة. وحتى عندما قام القائد الإنجليزي كرومويل (25 ابريل/ نيسان 1599 - 3 سبتمبر/ أيلول 1658) في منتصف القرن السابع عشر بحملة إبادة بروتستانتية منظمة وظالِمَة ضد الكاثوليك لم يستطع أن يُحقق ما كان يروم له أبداً.

بل الأكثر من ذلك، فقد تبيَّن لحكومة لندن وعلى حين غرّة أن الإيرلنديين الكاثولييك الذين مُورِسَ عليهم أقسى أنواع العقاب والعذاب تعاظمت أعدادهم من 800 ألف إلى 5.1 ملايين نسمة. وبدأت تنتفخ في أوداجهم قومية كانت مدفونة، ووحدة دينية وتنظيمية غاية في التماسك، وهوية صلبة لا توصف مُدِّدت أواصراها على كل تراب الجزيرة موصولة إلى بداية السيطرة البريطانية في العام 1534م على إيرلندا. السبب في ذلك هو أنهم تشرّبوا هَوَس الإلغاء والقضم من العملاق الإنجليزي المستأسد الذي كان شرَّق وغرَّب في حضوره الاستعماري من دون مُنازع، مستفيداً من قوة جيوشه وشراسة حربه وإمكانياته المادية الهائلة.

في كلّ الأحوال؛ فإن المخيف في الموضوع هو أن المشهد الطائفي لا ينتهي إلى حدّ عنوان الصراع: وجود/ إلغاء. ففي الوقت الذي يستحيل فيه تطبيق ذلك العنوان على الأرض، تتبرعم وتنمو على أطراف الصراع الطائفي سلوكات عنفية ترفدها الضغينة والرغبة الفردية/ الجماعية في الانتقام وهنا يبدأ الإشكال. فحين يقوم أحدهم بعمل مَّا ذي أبعاد طائفية/ مذهبية ضد آخر لا ينتهي المشهد عند هذا الحد فقط، وإنما تحال نتائجه الحقيقية اللامتناهية إلى وقت لاحق (قريب أو بعيد) حين تختل موازين القوى مرة أخرى، أو أن يظفر مَنْ مُورِس عليه العمل بفرصة الانتقام من الخصم لتستمر الحرب بوجهها الآخر الخفي والعنيف.

فالأحداث الطائفية التي يُشعلها الفرد/ الجماعة هي ذات عالَميْن من حيث نتائجها. الأول هو عالَمٌ عاجل، والثاني عالَمٌ آجل. في العالَم العاجل يكسب الطائفي القوي جولته، وفي العالَم الآجل يكسب الطائفي الضعيف جولته حين تتبدل أحوال القوة والضعف وتتبدل كذلك مواضِع الطوائف عليهما مدّاً وجزراً، ليبدأ السجال من جديد، حين يُصبح الآجل عاجلاً جديداً والأخير آجلاً مُؤجَلاً. وفي كلا الحالَيْن لا يغدو ذلك الصراع أكثر من كونه حرباً قذرة يتغالب فيها البشر الأغبياء على بعضهم بسلاح القوة والضعف فقط من دون غيرهما.

لا يستهينن أحدٌ أبداً من أيّ حدَث أو عمل ذي أبعاد طائفية يقوم به حتى ولو كانت كلمة مسمومة يرميها على آخر، فضلاً عن التحريض والتعيير والإهانة أو الاستلاب. فكل هذه الأحداث كبيرها وصغيرها يُشكّل في النهاية رأياً طائفيّاً، واستعداداً وجاهزيّة للانتقام متى ما سَنَحَ الأمر، وكأنها غريزة ذِئبيَّة لا تستكين ولا تخمد إلاَّ بالتعامل بالمثل. وإذا ما تعدّدت الأحداث والأعمال الطائفية فإنها تمنح الأجواء فرصة الانفجار مرة تلو الأخرى حتى يرى الناس أنفسهم وقد تضمَّخوا بالإثم والعدوان والمعارك التي تنتظر إذن بدايتها لكي تستعر.

أمام كلّ تلك الهواجس والمحاذير من السلوك الطائفي، تبقى العودة إلى العقل خير زادٍ لكي يقوم البشر بالعمل السَّوي. على الجميع ألا يُضيَّعوا دينهم، ويشتغلوا بالألفاظ وخدمتها كما كان يقول الشيخ محمد عبده. كما أن على الجميع أن يفتحوا قلوبهم على بعض لا أن يُغلقوها. لأن القلوب إذا انغلقت سقمت، وإذا سقمت فسدت سريرتها، وإذا فسدت سريرتها قسَت، وإذا ما قسا القلب قحطت العين كما كان يقول ابن قيّم الجوزية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3194 - الأحد 05 يونيو 2011م الموافق 04 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً