ومن تحصيل الحاصل تقرير أن معظم حكومات العالم الإسلامي لا تعرف المثالية الإسلامية، ولا تريد أن تتعرف إليها، ولا تؤمن بها، وتحاول جاهدة أن تطمس معالمها وتمحوها من صدور الناس، وفي الأقل لا تلقي لها بالاً، ولا تخصها بغير الهامش مكانًا، وهو ما يفسر الهوة المتزايدة اتساعاً بين نخبة الدولة والاقتصاد من ناحية، وبين جمهرة الشعب من ناحية أخرى ويعمق انعدام الثقة.
الملاحظة الثالثة: إنه في ظل استمرار التجزئة التي فرضتها موازين القوة الغاشمة على أمتنا وما ولّدته من أوضاع استتباع وفساد واستبداد لا يبدو لمشاريع التنمية المستقلة التي تريدها أمتنا آفاقاً مزدهرة واعدة، وذلك بصرف النظر عن نوع المنهج الاقتصادي المتبع، وهو ما دفع إلى تقلبات ذات اليمين وذات الشمال بحثاً عن مخرج وسط السراب ولكن من دون جدوى.
فشواهد التجربة لا تؤكد سوى تفاقم الفقر والمديونية واتساع الفوارق وتعمق التَّبعية إلى الخارج مقابل تضاؤل الاعتماد المتبادل بين اقتصادات دول الأمة، بما يؤكد حقيقة أنه في ظل استمرار التجزئة لا آمال كبيرة جادة يحملها لشعوبنا أي برنامج وإذا كان بينها من فوارق فهي فوارق جزئية.
الملاحظة الرابعة: إن الإسلام الذي قاد اجتماع أمتنا وعصور ازدهارها الحضاري المديدة، وظل مرجعيتها العليا التي استوحت منها كل مناهج حياتها الثقافية والتشريعية والاقتصادية، وتأسست في ظلها مجتمعات راجت فيها أسواق الدنيا جنبًا لجنب مع أسواق الآخرة تجسيماً للمثل الإسلامي الجامع بين المادي والروحي، وحتى في عصور الانحطاط، ظلت هذه المجتمعات منتجة لحاجياتها وزيادة حتى كانت تصدِّر الأقوات للدول الأوروبية وتسدي لها القروض (مصر أقرضت إنجلترا والجزائر أقرضت فرنسا، وكلاهما قبل الاحتلال).
إن الإسلام هذا ما عجز طيلة القرون التي حكم فيها عن إنتاج القمح الوفير وما احتاجته مجتمعاته من آلات إنتاج وحرب ومن معارف وتقنيات، وذلك قبل أن ينحَّى بقوة السيف عن عرشه ويدفع إلى الهامش وتستبدل به أيديولوجيات أخرى كما فعل الحلفاء إذ فرضوا على تركيا إثر الحرب العالمية الأولى التخلي عن الخلافة وعن الشريعة في اتفاقية لوزان.
إن هذا الإسلام لا يزال أهم مقوم في هوية الأمة ومحركاً لطاقاتها لو أنها وظفت في مشاريع التنمية كما حصل في تجربة ماليزيا وتركيا وإندونيسيا...
إن الإسلام الذي قاد اجتماع أمتنا وشكل وعيها وضميرها، ولا يزال، من الطبيعي أن يكون رجاله الأقدر على تعبئة شعوبنا لأي مشروع تنموي وتجسير الهوة الشاسعة التي شقتها المناهج التغريبية بين نخبة الحكم والثقافة من جهة، وبين جمهرة الناس من جهة أخرى التي غدت النخب وكأنها تناديها من مكان بعيد وبلغات واصطلاحات لا تكاد تفقه منها شيئاً.
الملاحظة الخامسة: إن الحركة الإسلامية لا تزال عمومًا في المعارضة والعلمانية في الحكم، فليست مسئولة عن أوضاع التأزم السائدة لدرجة العجز عن إنتاج الأقوات الضرورية والأسلحة الدفاعية، وهو ما يمثل تهديدًا حقيقيًّا للأمن القومي، إنها مسئولية الجماعات العلمانية التي حولت دولنا إلى أجهزة مرعبة للقمع والنهب وإهدار ما تبقى من الاستقلال الوطني.
ومع أن الحركة الإسلامية ليست فحسب في المعارضة بل تدور عليها غالبًا رحى الحرب الدولية والمحلية، ومع ذلك ففي الأحوال التي التقطت فيها بعض الأنفاس قدمت رصيدًا معتبرًا من الممارسات التنموية الناجحة وبالخصوص ضمن مؤسسات المجتمع المدني.
فقد طورت فكرة الاقتصاد الإسلامي حتى تبلورت في علم تقوم على تدريسه كليات في كثير من الجامعات، وبعضها في الغرب مثل جامعة لافبرا في إنجلترا، وتنعقد له المؤتمرات العلمية وتقوم على خدمته موسوعات ومجلات ومئات من المؤلفات.
كما يجسّده في الواقع الاقتصادي المحلي والدولي ما لا يقل عن مئتي بنك إسلامي تدير مئات المليارات من الدولارات، وتمثل قطب جذب وإغراء كبيراً للرأس مال ليس الإسلامي فحسب، بل غير الإسلامي أيضاً لما يوفره النظام المالي الإسلامي المتطهر من سوأة الربا من ضمانات، مقارنة بالاقتصاد التقليدي أي الربوي.
وهو ما دفع بلدًا يتوافر على ثالث اقتصاد عالمي هو إنجلترا إلى افتتاح بنك إسلامي بريطاني، كما دفع كبار البنوك الدولية؛ مثل سيتي بنك وباركليز بنك وغيرهما إلى فتح فروع لها تعمل وفق الشريعة الإسلامية، بما أمكن معه تأسيس وإدارة محافظ مالية واستثمارية صغيرة ومتوسطة وضخمة وشركات تأمين ومضاربات وفق الشريعة الإسلامية، حتى غدت المصرفية الإسلامية علْما قائما بذاته وأوعيتها المالية ملاذا للرأس مال المذعور بحثاً عن مأمن من موجات الإفلاس التي اجتاحت مؤسسات الاقتصاد الرأسمالي، بما جعل الحديث عن اقتصاد لا يتأسس على الإقراض الربوي حديثاً جادّاً وليس مدعاة للتندر كما حسب البعض.
ومن جهة أخرى؛ أمكن للإسلاميين الذين قادوا كبريات النقابات المصرية مثل نقابات: الأطباء والمحامين والصيادلة والجامعيين... إلخ، أن يثبتوا جدارة متميزة في الارتقاء بمستوى الخدمات في تلك النقابات وهو ما أكسبهم ثقة قواعدها، ولولا أن الإخوان حدّوا من مستوى مشاركتهم: الثلث لوقعت كل النقابات بأيديهم، ولا يختلف ذلك عن مستوى إدارتهم للمدارس الخاصة، وهو ما يفسر شدة التنافس والطلب عليها.
أما إدارتهم للبلديات ونهوضهم بها فالمثال التركي ناصع، تشهد عليه بلدية إسطنبول التي رفعهم أداؤهم الراقي فيها وفي المدن التركية الكبرى التي كانت بلدياتها تعاني حالة البؤس والإفلاس زمن القيادات العلمانية اليسارية واليمينية، رفعهم إلى سدة الحكم بانفراد، ليحققوا في المستوى الاقتصادي نهوضًا غير مسبوق أمكنهم به أن يعيدوا إلى العملة التركية اعتبارها حتى حذفت منها ستة أصفار لم تكن تعني شيئًا مذكورًا.
وخفضوا ديون تركيا بنسبة الثلث خلال ثلاث سنوات، ونزلوا بالتضخم والبطالة إلى معدلات الدول المتقدمة، ونجا اقتصادهم مما أصيبت به الاقتصادات الرأسمالية من انهيارات. وليس وراء هذه النجاحات من سبب واضح غير الإسلام، باعتباره العنصر الفارق.
فالإسلاميون مثل زملائهم العلمانيين درسوا في الجامعات نفسها، متمكنين مثلهم من العلوم والتقنيات والمعارف الحديثة نفسها، والإدارة زاخرة بالكفاءات الإسلامية العالية علما وخبرة، غير أنهم يتفوقون عليهم في أمور:
الأول: خطابهم هو الأقرب لأوسع قطاعات الجماهير؛ لأنهم يخاطبونهم بمفاهيم وقيم ومواريث متغلغلة في أعماقهم، بينما العلماني كأنه يخاطبهم من مكان بعيد فلا يحرك فيهم شيئًا كبيرًا، أما الإسلامي فتبدو قدرته كبيرة على تعبئتهم وتحريكهم في اتجاه ما يريد من أهداف.
والعامل الثاني: أن سلوك الإسلامي يوحي بالثقة أكثر من غيره لأنه يجسم النموذج المستقر في أعماق الجماهير لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المسلم، بارًّا بوالديه وأقاربه وجيرانه، صادقاً في معاملاته، مُؤْثِرًا على نفسه، تقيًّا ورعًا، يؤمهم في المساجد ويشهد جنائزهم وأفراحهم، ويجدونه إلى جوارهم كلما حزبهم أمر وحلّت بهم النكبات وما أكثرها، وكل ذلك راجع إلى الإسلام.
والأمر الثالث متأتّ من أن للإسلام عاملاً تربويّاً قيميّاً يتمثل فيما يمتلكه من قدرات على ضبط الاندفاع نحو الاستهلاك، بما يدع نصيبًا للادخار الضروري لكل نمو. وغالبًا مَّا لا يقف النهم للاستهلاك عند حد الدخل المتوافر للأفراد بمن فيهم القائمون على مؤسسات الدولة، بل تمتد أيديهم إلى المال العام لنهبه إشباعاً لمنافعهم الشخصية وأسرهم وأحزابهم، بينما الإسلام يربي أهله على التقلّل، ويلزمهم بالحلال شرطًا لقبول عباداتهم، فيكبح جماح الاستهلاك، وينذرهم بأشد العقاب إذا هم ولغوا في الحرام، ما يشكّل عاملاً تنمويًّا مهمًّا جدًّا لا يمتلكه غير الإسلاميين، وخصوصا إذا تعزّز بوسائل الرقابة في المجتمعات الديمقراطية، التي لم تجد وحدها نفعًا في كبح الفساد آفة النظم المعاصرة.
أما في ظل الأنظمة الدكتاتورية فيجتمع غياب الرقابة القانونية، مع غياب الرقابة الدينية، فتكون كارثة الانهيار محتمة ولو بعد حين.
إن دور التربية الأخلاقية إلى جانب دور القضاء والإعلام في كبح معامل الفساد مهم جدّاً حتى إن الوزير الأول في حكومة الثورة الأولى في تونس لم يتردد (...) في إعلان أنه لولا الفساد لتجاوزت نسبة النمو 5 في المئة ولبلغت 8 في المئة أو أكثر، وهو فارق هائل كان يمكن أن يستوعب البطالة المتفاقمة التي كانت عاملاً أساسيّاً في انهيار نظام المخلوع وقيام الثورة.
إن نجاح الشيخ نجم الدين أربكان (رحمه الله) وتلاميذه غير المسبوق في تركيا في القضاء على آفة الفساد التي اجتاحت طبقة سياسية في جملة أحزابها الفساد المستفحل - سواء كان ذلك خلال نهوضهم بتنمية بلديات مفلسة أو كان من خلال توليهم سلطة البلاد، حيث رفعوا خلال سنوات معدودات من مستويات الدخول الفردية، وحدّوا من مستويات التضخم المتصاعدة ومن البطالة ووضعوا تركيا اقتصاديًّا وسياسيّاً وحقوقيّاً على طريق التمدن الحديث- يمثل شهادة نيرة للإسلام وما حققه من تجديد وتشبيب للنخبة السياسية الهرمة.
وهو ما يمكن أن ينجزه (الإسلاميون) في كل مكان اليوم، بما يفرض اعتبار البرنامج الاقتصادي ليس مجرد مخططات أيّاً تكن دقتها وجماليتها بقدر ما هو قبل كل شيء مشروع ثقافي تربوي إنساني.
الملاحظة السادسة: تحاول حكومات في بلاد العرب شبعت فساداً ودكتاتورية تحت ضغط خارجي صارم إقامة نظام اقتصادي رأسمالي حر. ومعنى هذا في لغة الغربيين إيجاد نظام سياسي ديمقراطي يتسم بحرية الفرد في إبداء رأيه وفي اختيار ممثليه وفي مزاولة مهنته وفي معاملاته المادية مع غيره، وفي إصدار قراراته الخاصة بإنتاجه واستهلاكه.
لذلك كان أول ما يجب على هذه الحكومات إن أرادت أي إصلاح أن تكون منطقية مع نفسها وأن تزاوج بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، إذ من دون ذلك لن تتمكن من تحقيق ما تعِد به الشعب من رخاء اقتصادي وإن قل، فالحرية لا تتجزأ. ولأن الفساد متغلغل في أحشائها وجزء لا يتجزأ من بنيتها فتخليصها منه هو من قبيل القضاء عليها، بما يجعل الأمل في إصلاحها ميؤوساً منه.
هذا منطق البديهة، وهو ما قال به أصحاب المذهب الليبرالي في القرن التاسع عشر، وهو عين ما يقوله معتنقو هذا المذهب في هذا القرن، وهو ما قال به الإسلام في القرن السابع، على أن يتأسس ذلك ويجري في سياق فلسفة خلقية تعطي الأولوية للإنسان فردًا وجماعة بما يعنيه ذلك من رعاية التوازن بين حاجاته المادية والروحية والخلقية، واعتباره جزءًا من أسرة وجماعة ومجموع إنساني وفي علاقة ضرورية ومصيرية بالبيئة، فما ينبغي التمركز حول بعد واحد منها في مشروع تنموي جاد مثل الربح المادي مقابل إهمال بقية الأبعاد، كما فعلت وتفعل النماذج الرأسمالية أو الاشتراكية
إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"العدد 3192 - الجمعة 03 يونيو 2011م الموافق 02 رجب 1432هـ