حديث «حلاوة الإيمان» يستحق أن نقف عنده كثيراً وباستمرار؛ لأنه يلفت انتباهنا لحقيقة الإيمان، والرسالة التي بعث الله بها للبشرية كافة رسوله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً... ولخصه النبي (ص) في أربع نقاط تدور كلها حول المحبة: حب الله تعالى، وحب النبي (ص) وحب المؤمنين، وكراهية العودة للكفر؛ بمعنى حب القيم التي جاء بها الإسلام. ففي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي (ص) قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»... هذه هي حقيقة الإيمان.
وليس هذا هو النص الوحيد الذي يشير إلى أن حقيقة الإيمان هي: الحب. بل توجد آيات وأحاديث كثيرة بهذا المعنى.
ففي صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب أن النبي (ص) قال: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (ص) رَسُولاً».
الرضا والحب
ويقول الله تعالى: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ». (البقرة: 165).
وفي (المائدة: الآية 54): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». إلى غير ذلك من النصوص.
ولكن: هل هذا الحب يتمثل بالطريقة نفسها والشكل نفسه؟ هل حبنا لله هو بالطريقة نفسها التي نحب بها النبي (ص)؟ وهل حبنا للنبي (ص) هو بالطريقة نفسها التي نحب بها المؤمنين؟
أما حب الله تعالى فهو حب عبادة، حب اعتراف بنعمه علينا، حب اعتراف بجميل صنعه فينا، وحب طاعة وامتثال لأوامره واجتناب لنواهيه... وورد في الحديث النبوي الذي رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، عن عبدالله بن عباس قال: «قال رسول الله (ص): «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي».
وأما حب النبي (ص) فهو حب إيمان وحب اتباع وحب تعظيم وتشريف وتوقير وحب نصرة. وهذا الحب متفرّع عن محبة الله عز وجل، ولا يمكن لمن أحب الله ألاّ يحب رسوله. يقول الله تعالى في (سورة الأعراف:157): «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». وفي (آل عمران: 31): «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
وأما حب المؤمنين فهو حب خدمة لهم وحب تعاون معهم وحب مصاحبة لهم وحب مشاركة لهم، وحب ولاء لهم. ففي حديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة يقول النبي (ص): «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سُرُورٌ يُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَقْضِي عَنْهَ دَيْنًا، أَوْ يَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا. وَلَئنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا (يعني مسجد المدينة). وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهَ (أي: كظم غيظه رغم كونه قادراً على ردّ الفعل)مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةٍ. وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ. وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ، كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ».
وأما كراهية الكفر وحب القيم الإسلامية ومبادئ الإسلام، فالمقصود بها كراهية الظلم والشر وكل الأمور القبيحة، وفي مقابل ذلك، حبَّ الحق والعدل، وحب الخير وحب الجمال.
كل هذا يدل على أن الإسلام في حقيقته دعوة للحب ليس بالمشاعر فقط، وإنما أيضاً من خلال الممارسة والسلوك والفعل. حب الله يكون من خلال عبادته، من خلال الصلاة والسجود والذكر والتسبيح والتفكّر في نعمه وجماله وفي أسمائه وصفاته. وحب للنبي (ص) يكون من خلال اتباعه واقتفاء هديه، ومن خلال الصلاة عليه وتوقيره وتشريفه ونصرته. وحب المؤمنين يكون من خلال نفعهم وخدمتهم ومصاحبتهم.
وهذا يقودني إلى الحديث قليلاً عن واقع التطوع في الجاليات المسلمة في الغرب، لأشير إلى وجود ضعف في التطوع الإسلامي، وقلة الكفاءات القادرة على تغطية جميع حاجيات الجالية. وهذا ما يسبب في نوع من القلق على مستقبل الجالية إن لم يُعالج هذا الأمر بالجدية اللازمة وروح المسئولية.
فالمؤسسات الإسلامية تعاني عموماً من ثلاث مشاكل على مستوى التطوع وهي:
أولاً: عدم وجود توازن بين حجم الأنشطة وعدد المتطوّعين للقيام بها.
وثانياً: وجود حالة من الإرهاق لدى عدد كبير من المتطوّعين الحاليين؛ نتيجة تراخي الآخرين في التطوع.
وثالثاً: وجود صعوبة في كسب متطوّعين جدد.
وإدارة شئون الجاليات المسلمة في الغرب والاستمرار في تنظيم الأنشطة والتفكير في خدمات جديدة للمسلمين، كل هذا يتطلب تعاون والتزام أكبر عدد ممكن من الأشخاص. والمتطوع هو إنسان يلتزم بملء رغبته في عمل منظم لخدمة إخوانه. والجميع لديهم مسوّغات كافية ليكونوا متطوعين:
أولاً: لأن التطوع علامة من علامات حب المؤمنين كما ذُكِر في الحديث.
وهو أيضاً دليل تعاون وتضامن وتآخٍ في الجالية، وهو فرصة ليكون كل واحد نافعاً للآخرين، وعنصراً إيجابياً، وهو فرصة أيضاً للشعور بالسعادة ولذة الأخوة في الله والحب في الله.
المتطوع إنسان يريد أن يخدم قضية أو يكون نافعاً، ويريد أن يعطي معنى لحياته داخل جماعة المسلمين في المدينة التي يعيش فيها، ويريد أن يعيش تجربة تساهم في تقوية شعوره بالانتماء للإسلام والمسلمين. كل واحد منا يحتاج أن يكون هذا المتطوّع.
وفي المقابل، كل واحد منّا يرغب في أن يرى الجودة في الخدمات المقدمة للمسلمين، ويرغب في تطوير نمط الحياة لأفراد الجالية، لأبنائنا وشبابنا ولنسائنا ورجالنا. ولا يمكن هذا إلاّ إذا تطوّع كل واحد منا، وساهم بجزء من وقته وطاقته
إقرأ أيضا لـ "محمد بن جماعة"العدد 3192 - الجمعة 03 يونيو 2011م الموافق 02 رجب 1432هـ