ماذا يمكن أن يفعل الإسلاميون في المجال الاقتصادي لو قامت لهم سلطة أو أسهموا فيها؟ هل لديهم حلول واقعية لمعالجة الوضع الاقتصادي ومشكلاته المتعددة؟ أو بعبارة أخرى: ما هي إضافات المشروع الإسلامي في المجال الاقتصادي وإمكانية تطبيقها؟
من المهم في هذا الصدد إبداء الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: تاريخيّاً اقترنت الإجابة عن هذا السؤال -إشكالية البرنامج- بالمشروع الإسلامي منذ ظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة وخاصة على مستوى العالمين العربي، والإسلامي.
وازدادت تلك الإشكالية حدة وتعقيدًا منذ دخل الإسلاميون المعترك السياسي، واقتربوا من مناطق السلطة في العديد من الحالات. وحدهم طولبوا ببرامج تفصيلية ولمَّا يتحقق لهم ولا لقوى المعارضة عامة ولو الحد الأدنى من الحريات حتى ولا ضمان حق الحياة، فضلاً عن غياب الشفافية، وحجب الحكومات المستبدة القائمة للمعلومات الصحيحة عن حقائق الوضع الاقتصادي مما هو ضروري لكل تقويم علمي لهذه الأوضاع، وتقديم البدائل الكفيلة إخراج البلاد من أوضاع التأزم والتخلف.
ولكن أنَّى لأية معارضة جادة في ظل هذه العتمة وفي مناخات القمع السائدة أن تحقق إنجازات معتبرة في مجال التجديد والإبداع والتطوير، بينما همُّها منصرف إلى ضمان حق الوجود إزاء ملاحقتها بوصف «المحظورة» وإدارة رحَى القمع والملاحقة عليها، على رغم أنه من حيث الأصل طبيعي أن يطالب الإسلاميون ببرنامج أو رؤية واضحة لمعالجة معضلات الواقع الاقتصادي وكيفية مواجهة أخطار الأزمة الاقتصادية الخانقة، وخاصة أنهم أصبحوا يشكلون رقمًا سياسيًّا مهمًّا في الحسابات السياسية المحلية والدولية.
إن جوهر الصراع الدائر يتعدى مسألة البرامج والبدائل والسياسات، ويتجاوز بشكل عام البعد الاقتصادي لأزمة البلاد؛ لأنه باختصار يكمن في: غياب الحريات وسيادة دولة الاستبداد، وإقصاء الأطراف السياسية والاجتماعية الجادة، ومنعها من المساهمة في معالجة الأوضاع والتفكير الجماعي في مصلحة البلاد ومستقبلها، الأمر الذي جعل المعارضة عامة أقرب إلى حركة تحرر وطني منها إلى أحزاب سياسية تناضل من أجل تطبيق برامج جزئية تفصيلية، كما يحدث عادة في دولة ديمقراطية حديثة توافقت فيها النخب على معادلة معقولة للحكم على أساس ضمان حقوق للمواطنة، توفر للجميع التداول السلمي للسلطة بين مختلف الفرقاء.
وفي غياب مثل هذا الإطار التوافقي بسبب سيادة الاستبداد، يغدو النضال ضد الاستبداد من قبل كل أنصار الحريات الديمقراطية هو جوهر البرنامج الوطني على غرار ما كان يحدث زمن الحرب ضد الاحتلال، حيث كان النضال يتمحور حول مهمة واضحة هي طرد الاحتلال من دون الزج بقوى المقاومة في أتون الصراعات الأيديولوجية المفرّقة.
ولذلك لم يكن عجبًا أن تتألف هيئة وطنية في تونس من قبل أحزاب وجمعيات وشخصيات تنتمي إلى اتجاهات ليبرالية ويسارية وإسلامية مختلفة على أساس برنامج وطني يتلخص في الحرية: حرية التعبير، وحرية التنظيم، وحرية المساجين مصممة عن وعي على تأجيل صراعات أيديولوجية طالما أنهكتها طيلة نصف قرن من دولة الاستقلال، دولة الاستبداد.
وهو ما يجعل الجدل المستمر في مسألة البرامج والبدائل ليس في المحصلة سوى مزايدة سياسية وتَعلَّة مقنَّعة لإقصاء طرف سياسي وخصم عقائدي من الساحة، والحيلولة دون انسيابه في المجتمع ما ظلت أبواب الحريات العامة موصدة والقمع متواصلاً وتداول السلطة ممنوعاً حتى التلفظ به.
إن الحديث عن برنامج إسلامي اقتصادي ليس حديثًا عن مشروع غيبي أو سحري مثلما يروج لذلك خصوم الحل الإسلامي، مع ما للبعد الغيبي من أهمية من وجهة النظر الإسلامية في إنجاز التنمية وإحداث النهضة الاقتصادية المطلوبة، وهو أيضاً ليس حديثًا عن مشروع أخلاقي، مع ما للأخلاق من دور في النهوض بالمجتمعات.
ولكن البرنامج الإسلامي المقصود، هو برنامج يتعدى الدائرة الاقتصادية البحتة ليشمل كل الدوائر التي تحيط بها وتتكامل معها، وخاصة الدائرة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يتشكل في إطارها البرنامج الاقتصادي، ويعمل متكاملاً معها ليفرز معالجات لصيقة بهوية المجتمع وخصائصه التاريخية والحضارية، ويوفر لمواطنيه ضرورات وحاجات اجتماعهم وتمدنهم وعزتهم.
الملاحظة الثانية - حول الاقتصاد والسياسة:
من المسلم به أنه لا يمكن الفصل بين الاقتصاد والسياسة وعلى الأخص في هذه الأيام. ومن المسلم به أيضاً أن القضايا الاقتصادية والسياسية لا توجد في فراغ، لكنها تنشأ في مجتمع إنساني منظم ينتسب إلى مثالية معينة، فكلا النظامين الاقتصادي والسياسي في أي مجتمع يشتق مبادئه من هذه المثالية، ولا يمكن أن ينجح قط أي نظام يصادم ما يؤمن به الشعب من مثالية، سواء كانت ليبرالية حرة أو ماركسية اشتراكية أو إسلامية أو غير ذلك
إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"العدد 3191 - الخميس 02 يونيو 2011م الموافق 01 رجب 1432هـ