دمر اختلال القيم في مجتمعاتنا، بسبب عوامل داخلية وخارجية عدة، المرجعية المشتركة الضرورية لقيام أي نخبة اجتماعية فاعلة، وعمل على تفجيرها وتشتيتها. فصرنا على شفا حرب أهلية علنية أو كامنة، لا يفهم أحدنا لغة أخيه، ولا يتواصل معه من خلال قيم متماثلة. وشرط إعادة إنتاج هذه الحرب هو استتباع الأفراد وتحويلهم إلى أدوات منفذة من دون وعي أو تساؤل، وقاعدة هذا الاستتباع والانقياد تكريس الفكر الواحد والرأي الواحد والتفسير الواحد والولي الواحد، أي الاستبداد الفكري والروحي.
وبالمقابل لا يمكن تجاوز الوضع الراهن ووقف جدلية الحرب والنزاع من دون العودة إلى تأسيس المجتمع وتوحيده، ومحور هذا العمل إعادة بناء المرجعية الاجتماعية، أي منظومة القيم المشتركة التي تجسد الحد الأدنى من التفاهم الاجتماعي. ولن يكون لأي منظومة قيم قدرة على إنتاج مرجعية اجتماعية ما لم تستبطن مبدأ التعددية الذي لا يعكس واقع المجتمعات الراهنة، كما عكس واقع المجتمعات القديمة، فحسب، وإنما تطلعات الفرد والانسان فيها وطموحاته للتميز والاستقلال والقيادة الذاتية والهداية الشخصية أيضا. ويعني اعتبار التعددية قيمة مؤسسة لأي منظومة قيم اجتماعية جديدة قابلة للحياة وقادرة على إعادة بناء الاجماع العام، أولاً أن التعددية والاعتراف بشرعية اختلاف وجهات النظر هو الشرط الأول لبدء أي حوار، وثانيا ان تكريس التعددية وتحويلها إلى قيمة ايجابية مطلوبة ومرغوبة يمثلان أساس بناء العلاقة الاجتماعية الجديدة وقاعدة العيش المشترك المفضي إلى تعاون بين الأفراد والجماعات وتأسيس توجهات ايجابية ومنتجة بينهم. كما يعني أخيرا أن الاعتراف بها وتأكيدها كمبدأ مؤسس للحياة الاجتماعية السياسية هو أول لبنة في بناء المرجعية الواحدة التي نطمح من خلالها إلى إعادة بناء النخبة الاجتماعية، ومن ورائها بناء فكرة القيادة الوطنية ونمط ممارستها معا. ومن هذا المنطلق أصبح من الواجب مواجهة سياسة الفكر الواحد ونقد نزعة الاستئثار التي تسم الحياة العربية في كل المجالات. فليس هناك ولن يكون أمل في إعادة بناء الاجماع الوطني على أسس الواحدية العقدية أو السياسية.
وبالرغم من أن نزعة الاستئثار والإقصاء السياسي والفكري قد ارتبطت إلى فترة قريبة بالنظم التسلطية والاستبدادية، أي بتلك القوى التي تتحكم بالسلطة وتستعملها لمنع غيرها من المشاركة في الحياة العمومية خوفا من مزاحمتها على احتلال مناصب المسئولية التي تحولت إلى غنائم خاصة، إلا أنها لا تقتصر اليوم عليها وإنما تتجاوزها نحو قوى تنزع إلى فرض سيطرتها أو هيمنتها الشاملة على المجتمع وإغلاقه في وجه القوى والتيارات والأفكار الأخرى. وهي لا تقل في جموحها إلى فرض الرأي الواحد وإلغاء الآخر أو استبعاده إذا أمكن لها ذلك من الحياة العمومية، على أمل قطع الطريق على أي نقد يمكن ان يوجه لأفكارها التي تنظر إليها كتجسيد لحقائق مطلقة دينية. فما يقوم به النظام السياسي على مستوى الدولة تحاول هي أن تطبقه على مستوى الرأي العام. والنتيجة قضاء كامل على أي شكل من أشكال التعددية الفكرية وكل فرص الاستقلال الشخصي والانساني عن سلطة الدولة أو العقائد السياسية السائدة. وليس من الصعب على المراقب أن يشاهد كيف تتراجع مجتمعاتنا نحو الفكر الواحد، تماما كما تراجعت السلطة نحو سلطة الحزب الواحد ثم الشخص الملهم الواحد من قبل. حتى ليمكن القول إن المجتمعات العربية تعيش بين طغيانين، طغيان النخب الحاكمة واستئثارها بالسلطة والدولة، ومنعها الأطراف الأخرى من المشاركة فيها، وطغيان التيارات الاسلامية المختلفة - وليس علماء الدين – على الرأي العام، عندما تنزع لاحتلال كل ميادين السلطة الاجتماعية، الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية والفنية، ولا تترك لغيرها من أصحاب الاختصاص أي مجال مستقل، أو أي استقلالية في تقرير ما هو صحيح في ميدان اختصاصها نفسه. بل إنها حتى في ميدان العقائد الدينية لا تترك المجال إلا لمذهب واحد أو بالأحرى تنزع إلى تسويد المذهب الواحد والمتحدث الواحد باسم هذا المذهب. فلا يختلف موقع بعض رجال الدين اليوم على مستوى الرأي العام عن موقع أي رئيس دولة عربية في كونه الموجه الأوحد للرأي العام. إضافة إلى أن مثل هذه النزعة تقود إلى الجمود وإفقار الفكر فإنها تحرم أصحاب الرؤى والأفكار العديدة الأخرى من التمثيل والتعبير عن أنفسهم وتدفع بمعارضتهم إلى اتباع الطرق الملتوية السرية والباطنية التي تفسد أي مناظرة عقلية وتعيد بناء القوى والمشاعر والتطلعات على أسس وهمية واعتقادات خرافية.
وهي تحكم بالعقم والفوات على المعرفة الاجتماعية وتقضي على روح التجديد والابداع بقدر ما تلغي جدل العقل وتحيل المعرفة المتعددة والمتنوعة والمركبة بكاملها إلى معرفة نمط واحد، لاهوتي أو فقهي. كما تحكم بالانحطاط الاجتماعي بقدر ما تؤدي إلى تكريس نخبة اجتماعية واحدة، وتعمل على إلغاء الحراك والتنافس والمباراة بين النخب الاجتماعية المتعددة، لصالح نخبة اجتماعية واحدة، أو أحد مكوناتها من النخب الدينية أو العلمية التي تنزع في هذه الحالة إلى الحلول محل جميع النخب الاختصاصية الأخرى، كما حصل مع النخبة الايديولوجية في العصر الشيوعي.
لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يقود إلى تقهقر المجتمع فكرا وممارسة ويحول أعضاءه إلى أتباع لرجال الحكم والأوصياء على الدين، مهما كان نوع هذا الحكم، سماويا أم علمانيا، وأتباعه معا. والواقع أن كلتا السلطتين تمثلان نمطا واحداً من السلطة المطلقة التي تستتبع الآخرين ولا تطلب منهم سوى الطاعة والانقياد. وكلاهما لا يتسقان مع تنمية ملكة النقد والتفكير الشخصي الحر. فرجل السياسة الاستبدادية لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر. وكلاهما ينزع إلى النظر إلى المجتمعات ككتل تابعة، ولا يهتم أي اهتمام باستقلال الفرد الفكري والسياسي وتحرره.
ويتجسد التحالف الموضوعي بين التسلطين السياسي والفكري في وسائل الإعلام العربية التي تعكس النزوع الجارف للقضاء على التعددية وتكريس النخبة الواحدة في الدولة وفي الرأي العام. وتشكل قناة الجزيرة اليوم أحد الامثلة البارزة لكن ليست الوحيدة على هذا الاندفاع الموضوعي نحو الواحدية في الدول والمجتمع، بصرف النظر عن إرادة أصحابها. فما يبث فيها يجسد واقع ما نعيش بشكل واضح، أي عالمنا الذي تتصارع فيه بالدرجة الأولى نخبتان سياسيتان، النخبة السياسية الاستبدادية المسيطرة على الحكم والنخبة الاسلامية المسيطرة على المعارضة والرأي العام، بينما تغيب عنها أغلب جماعات الرأي والاختصاص الأخرى، ولا تتاح لها فرصة التعبير عن نفسها والمشاركة في النقاشات الوطنية، مما كان سيخفف لو حصل من حدة التناقض والتصادم في ما بينهما. فمن حق الصناعيين والنقابيين والعلماء والفنانين والإداريين والمبدعين في جميع الميادين أن يكون لهم مكانهم في وسائل الإعلام، وأن يتمكنوا هم أيضا من التواصل عبرها مع الرأي العام. ولن يكون هذا في مصلحة المجتمع ككل الذي سيتمثل تعدديته ويستبطنها ويفهم شرعيتها ومسبباتها فحسب، ولكن في مصلحة الاسلاميين انفسهم أيضا. وأملنا أن يدرك الاسلاميون الذين عايشوا تجربة الفكر الواحد والحزب الواحد التي قادت مجتمعاتنا إلى الهاوية، والتي عانوا هم منها الأمرين، مخاطر الانجرار وراء النزعة نفسها والقبول، تحت ذرائع مختلفة، بمبدأ الاستئثار بالرأي، وعدم التردد أمام فكرة إقصاء الآخرين وقطع الطريق عليهم، على أمل تحقيق السيطرة الكاملة على المجتمع، وتفريغ الساحة من أي خصم أو رأي مغاير. وهو نزوع قائم لا يمكن إنكاره، ويتخذ أشكالا كثيرة منها استسهال اتهام الخصم المختلف في الرأي بالعمل في سياق الاستراتيجيات الغربية أو في ما لا يخدم الأمة وإخراجه من الدائرة الوطنية، وتشويه آرائه أو الابتسار فيها للتشهير به والقضاء عليه. ولا أحد ينكر أن للفكر الاسلامي اليوم السيطرة الشاملة على الرأي العام، بينما تحولت التيارات الأخرى الليبرالية أو الحداثية أو العلمانية، إلى تيارات أقلوية معزولة داخل جيوب محدودة وضيقة، تكاد تفقد هي نفسها الثقة بنفسها، وتهرب من بلدانها بحثا عن سماء أخرى تستطيع أن تعبر فيها بحرية أكثر عن رأيها.
وبعكس ما يعتقد الاسلاميون، لن يساعد انهيار هذه التيارات المغايرة واندثارها وخروجها من الساحة على تقدم قضيتهم، أو على أي انتصار حقيقي لهم، كما لن يقربهم احتكار السلطة الاجتماعية والتحكم الكامل بالرأي العام من السلطة السياسية والدولة. إن ذلك سيقلل بالأحرى من حظوظهم في الوصول إليها أو المشاركة فيها بقدر ما سيدفع قطاعات الرأي العام التي لا يمكن حلها أو امتصاصها بأي شكل، إلى الالتحاق بالسلطة الدكتاتورية والتحالف معها، وبالتالي في استمرار حالة المواجهة المميتة الراهنة وما ينجم عنها من انسداد في أفق التحول والتغيير. ليس المقصود من رفض الاستئثار إذن صون حقوق الأقلية الفكرية بالدرجة الأولى، وإنما تاكيد مبدأ التعددية وشرطها الذي لا يمكن أن تقوم من دونها حياة سياسية ومدنية سليمة. فمجتمع الرأي الواحد والسلطة الواحدة ليس محكوما عليه بالتقهقر والفقر والفساد، كما هو حالنا اليوم فحسب، ولكن بالحرب والاقتتال الأهليين الدائمين. ذلك أنه متى ما قضي على مبدأ التعددية، لن يكون هناك مجال لتحقيق وحدة المذهب أو الرأي الواحد نفسه. ذلك أن كل مذهب ودين قائم أيضا على اجتهادات وتأويلات ومناهج نظر مختلفة، لا يمكن تعايشها إلا على أساس الاعتراف بحق الاختلاف والمغايرة. ولهذا قال القدماء المسلمون اختلاف الأمة رحمة.
ليس المطلوب من الاسلاميين التنازل عن مواقعهم التي اكتسبوها بجهدهم أو بسبب انهيار التجارب الليبرالية واليسارية الحديثة، وهي مواقع النخبة المسيطرة بحق اليوم على الرأي العام المسلم، ولكن المقصود عدم الاستسلام لإغراء القضاء نهائيا على الخصم وتصفيته من الوجود، حتى لو كان ذلك في متناول اليد. ويرتب هذا مسئوليات كبيرة على قادة الرأي من بين المسلمين والاسلاميين معا. وينبغي ان يحثهم على الاعتدال في التعبير عن السيطرة والسلطة ويدعوهم إلى المزيد من التمرس على ضبط النفس، والابتعاد عن الغطرسة التي يدفع إليها الشعور بالقوة والتمكن، وعدم الاندفاع بعيدا وراء إغراء الانتصار الخالص، أو استثمار التفوق الواضح لدى الرأي العام لتحقيق أهداف سياسية اجتماعية خاصة، أو للتخلص مما بقي من آراء ومواقف ورؤى مغايرة في المجتمع. كما يدعوهم إلى الإمساك عن تسويد صفحة الخصم وتشويه صورته من خلال اتهامه المستمر والتهجم عليه والهزء بمواقفه وآرائه، فما بالك باستسهال تكفيره أو تخوينه في مسائل لا علاقة لها بالدين، وتدخل ضمن دائرة الاجتهاد السياسي والعقلي، مما تطفح به الساحة العامة اليوم في مجتمعاتنا.
من هنا، وانطلاقا من المبادئ الديمقراطية والعادلة نفسها التي حفزتنا، في ثمانينيات القرن الماضي، ضد جميع تيارات الاقصاء والأحادية الفكرية والسياسية واحتكار السلطة السياسية أو الفكرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إلى الدفاع عن الاسلاميين وحقهم في الوجود، عندما كانوا أقلية مضطهدة من قبل ما يسمونهم اليوم بالعلمانيين، واتهمنا من قبل هؤلاء في وقتها بالاسلاموية، وعزلنا في أوساط هؤلاء العلمانيين وأنظمتهم التابعة، لشعر اليوم أن من واجبنا التذكير بخطر الانجراف وراء نزعة الاقصاء والاقتلاع نفسها التي تبدو لنا في نمو متزايد في وسط التيارات والحركات الاسلامية المختلفة، التي تشعر في الوقت نفسه بالاحباط والقهر نتيجة إغلاق باب المشاركة السياسية في الوقت الذي تشكل فيه الكتلة الأكبر أو ذات التأثير الأكبر لدى الرأي العام. لكن الحل لهذا الإحباط ليس في الانتقام من الأقليات الفكرية المغايرة، واحتكار السلطة الاجتماعية وساحة الرأي العام وإغلاقهما في وجه من يسمون بالليبراليين والعلمانيين والحداثيين، وحرمانهم من الحرية أو من الوجود الشرعي المعترف به والمقبول، وإنكار حقهم في المناقشة والحوار. فلن يقدم مثل هذا الموقف أي مخرج من الأزمة التي يعيشها التيار الاسلامي ومعه المجتمعات العربية بأكملها، ولكنه يعمل بالعكس على تعميقها وإدامتها. إنه لا يقدم للاستبداد المقيت الذرائع التي يبحث عنها لتبرير نفسه واستمراره فحسب، وإنما يزرع الخوف الشديد أيضا في قطاعات واسعة من الرأي العام التي لا مصلحة لها في بقائه، ولكنها لا ترى والحالة هذه فرقا كبيرا بينه وبين البديل القادم، مادام هذا البديل لا يختلف عنه في رفض التعددية والنزوع إلى الاستئثار الفكري والسياسي. وهو ما يفسر الكساح الحقيقي الذي تعاني منه الحركات الديمقراطية في المجتمعات العربية لصالح قوى التكلس والتعصب والاستبداد والطغيان.
لا تعني التعددية الاعتراف بالآخر أو التسامح مع وجوده فحسب. ولا تقتصر على القبول به أو صرف النظر عنه. إنها تتطلب أكثر من ذلك الاعتراف بمشروعية فكره والمنطلقات التي يقوم عليها، حتى لو أننا لا نؤمن بها، ونعتقد، وهذا حقنا، أن مشروعية فكرنا هي الأقوى. ولا ينبغي أن نجد صعوبة كبيرة في التأسيس لمشروعية التعددية في ثقافتنا العربية والاسلامية. فهي لا تعني شيئا آخر سوى الاقرار في أن احتمال الخطأ كامن في أي نظر، وذلك على منوال القاعدة التي سنها كبار أئمة المسلمين أنفسهم: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر المختلف خطأ يحتمل الصواب. فاعتقادي بصواب رأيي لا يصل إلى درجة الاعتقاد بعصمتي، وبالمثل اعتقادي بخطأ رأي الآخر المخالف لي لا يلغي احتمال وجود الصواب فيه. بالتأكيد مثل هذه الدعوة لتحمل المسئولية والارتفاع على مشاعر الاحباط وعدم السير وراء غريزة الربح والانتصار الكاسحين وتحقيق المكاسب الفئوية، لا تعني المؤمنين ولا الناشطين العاديين، ولا معنى لها في هذه الحدود. إنها موجهة للقادة السياسيين من الاسلاميين ولرجال الدين الكبار الذين يفكرون بمصير البلاد والمجتمعات ككل وبمستقبلها، ولا يكتفون بالتفكير بمكاسبهم السياسية الخاصة، كما لا ينخدعون بالمظاهر والانتصارات السريعة والسطحية
إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"العدد 3191 - الخميس 02 يونيو 2011م الموافق 01 رجب 1432هـ