«عليك أن تكون طفلاً بما يكفي، أيها العجوز، حتى تدرك هذا الإحساس الفتان»، ردد في سره، وهو هائم على وجهه. متعته الوحيدة والممكنة: التجوّل في الظهيرة، بعد أن يستيقظ متأخراً، ويتناول وجبة فطوره على عجل.
همس لنفسه بصوت مسموع: «لا بد أن أجرب هذا الإحساس، وليس مهمّاً ما سيقوله الآخر»!
مرّ بمحاذاته رجل يحمل كيساً يحوي ما تبضع للغداء، رماه الرجل بنظرة إشفاق وغمغم ببضع كلمات مبهمة.
تأمل الكهل - منكس الرأس - ظله المتمدد قبالته على الرصيف، ساورته رغبة قديمة في أن يستلقي تحت أشعة الشمس ويلتحم بظله، وصورة حجرته الباردة، الشبيهة بزنزانة لا تزورها الشمس تطرق باب ذاكرته.
اختفت البنايات، السيارات والمارة، تبخّر الضجيج، وتراءت أمامه - فجأة - صحراء مترامية الأطراف. انحنى، لامس بأصابع متضرعة الرمال الذهبية، وعيناه تبرقان فرحاً، كمن وجد كنزاً. تهاوى جسده، استرخت أطرافه، تنمّـلت، غفا في عمق، وملامحه تعكس صفاءً داخليّا افتقده منذ زمنٍ.
تناهت إليه أصوات خدشت سكينة اللحظة، فتح عينيه ببطء وهو يظللهما بيمناه.
- ماذا يحدث؟ ما هذه الجلبة ؟
- أستاذ، ماذا تفعل هنا؟!
بدا مرتبكاً كمن ضبط متلـبسًا بجرمٍ أخلاقيّ، وقد تحلق حوله ثلة من الشباب.
- يا أصدقاء، بطل روايتي الجديدة يعاني من الانفصام في الشخصية. أحياناً، تنتابه رغبات غريبة، ولكي أصف، بدقة وصدق، استسلامه لغواية الظل، ولتلك الموسيقى الداخلية الساحرة. يجب أن أجرّب هذا الإحساس وأتقمص الشخصية!
تهللت وجوههم بشراً، غير مصدقين كلام الكاتب الكبير.
- كتبت هذا المشهد أكثر من مرة، لكن بدا لي باهتاً، شاحباً.. ومفتعلاً!
لاح له رجال الأمن مقبلين في اتجاههم، حاملين هراوات وواقيات. استفسرهم باسماً:
- أتصورون مشهدا سينمائيا، يا شباب؟
لم يسمع سوى صدى خطواتهم تبتعد، وهم يهرولون.
في الصباح، كانت صورته بشعره الفضيّ وابتسامته الطفوليّة تزيّن صدر الصفحات الأولى من الصحف، وإلى جانبها صور جماعيّة لضحايا تدخل قوات الأمن
إقرأ أيضا لـ "هشام بنشاوي"العدد 3190 - الأربعاء 01 يونيو 2011م الموافق 29 جمادى الآخرة 1432هـ