في العالم الثالث فقط، الشارع لعنة ومدخل وفرصة للشتم والنعت القبيح وكناية عن الانحطاط والعبث واللاجدوى. خارج ذلك العالم التقط وتُلتقط من الشارع قيم وكثير من المعاني والأفكار والحلول والتطوير لهندسة الطرق والأخلاق وهندسة الاجتماع. الشارع عندنا في مساحة كبيرة من الوعي الجمعي يذهب إلى الانفلات وقلة الأدب والتربية. وأضعف الإيمان في الأمر، أن تنزع فلاناً من نسبه ونسب أبيه لتلحقه بالشارع فتقرر أنه «ولد شوارع!» وما لا يعجبك من طرح وأسلوب ووقاحة بعضهم تحيله إلى الشارع؛ ولا تكتفي بذلك بل في لحظة انفعال تقرر- ومعك حق من دون أن تشعر- أن للشارع لغة؛ لتقرر أنها «لغة شوارع!» حتى الأفكار والأطروحات التي يختلف بشأنها كثيرون لن تنجو من محرقة الانفعال والمزاج والسهو والغباء أحياناً بنعتها بأنها أفكار شوارع! ثم متى تراكمت وتطورت وتزاحمت وتجادلت الأفكار بعيداً عن الشارع؟ الغرف المغلقة المنعزلة عن حركة الأفكار في العالم لا تنتج أفكاراً صلبة وعميقة ومندمجة ومسائِلة ومُستجوِبة ما لم يكن الشارع فضاءها الضروري والمهم. قاعات المحاضرات وفضاءات الأفكار تظل بمعزل عن الشارع تنظيراً من دون أسس ومن دون نبض ومن دون روح بالدرجة الأولى. روحها الأساسية - ولا أقول الوحيدة - تنبع من الشارع. المصلحون لم يبثوا شكواهم ورسالاتهم من الغرف. الشارع كان الفضاء الذي حققوا من خلاله للإنسان حيزاً من قيمة ومعنى ودور. فلا تمعنوا في إهانة الشارع يا أبناء الشوارع!!!
***
ثقافة شوارع... أولاد شوارع... تربية شوارع... منطق شوارع. في الوقت الذي لن نصل إلى البيت... المدرسة... العمل... المسجد... أماكن اللهو... إنقاذ شخص ما... لن نفيَ بمواعيدنا... لن تكون علاقاتنا العاطفية والإنسانية بخير، ما لم نجتز تلك الشوارع في نهاية المطاف.
***
فيروز غنَّتْ للشارع، وشعبان عبدالرحيم لم ينسه، لأنه أتى منه، ومن قبله أحمد عدويّة، الذي لم يتنكّر له، وفيفي عبده تذكّر نفسها دائماً بأنها ابنة شوارع، بدليل أن السيناريست - أي سيناريست - لا يرى جدوى في دورها ما لم تجلدِ المشاهدين بقاموس «شوارعي»، باتوا يحفظونه عن ظهر قلب. الفرق أن فيروز حقنت مزيداً من الشعرية في شرايين الشارع، بحيث بات - مع صوتها - لا يقل حميمية عن قاعة للجلوس، أو حتى غرفة نوم، فيما الآخرون ظلوا يسيئون إليه بأدوارهم، ومكياجهم، وحواراتهم، وملابسهم، ورفاهيتهم المفتعلة، على رغم أنهم أدَّوا تلك الأدوار كي يعيدوا الاعتبار إليه.
***
في الكلام على أبناء الشوارع، ألا يكشف ذلك عن أن الشوارع تلك أكثر إنسانية وشعوراً من بعض الذين يلعنونها؟ بدليل أنها لم تتبرّم يوماً من الذين يتخذون من أسافل الجسور، وزوايا الأنفاق، والسكك المهجورة، مضاجع لهم، في الوقت الذي لا مكان لهم بين بني جنسهم.
***
كل جمعية سياسية تريد أن تستحوذ على دور أو تخطفه، تظل عينها على الشارع. وهذه المرة ليس باعتباره إسفلتاً أو زقاقاً؛ بل باعتباره حيّزاً يفيض بالسطوة، وواحداً من أنجع وسائل الضغط. لكأنها بذلك الحسبان تتعاطى مع الشارع باعتباره وعاءً يمتلئ بوسيلة ضغط... بزحف بشري، يستعرض سطوتها، فيما هي خارج ذلك الدور تنظر إلى الاثنين معاً على أنهما من نسيج ونطفة واحدة، وخصوصاً حين يفيض الشارع بعيداً عن آلياتها ودورها وسطوتها. تراه حينئذ مزدحماً بأبناء شوارع
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3190 - الأربعاء 01 يونيو 2011م الموافق 29 جمادى الآخرة 1432هـ