المجالس البلدية حول العالم معنية ضمن اختصاصاتها الوظيفية بتوفير أفضل الخدمات في مختلف النواحي المعيشية من أجل تعزيز سبل الرفاهية والعيش الكريم للقاطنين في محيطها الجغرافي من مواطنين ومقيمين سعياً منها نحو تحقيق التنمية المستدامة، ومن ضمن الآليات المستخدمة في الوصول لتلك الرؤية الاستفادة من التجارب البشرية المتوافرة في البلدان الأخرى عبر الزيارات المتبادلة وبرامج التعاون المشترك التي تأتي ضمن ما بات يعرف اليوم باتفاقيات التوأمة بين المدن.
يرجع تاريخ اتفاقيات التوأمة إلى العام 836م حينما وقعت مدينة لومانز الفرنسية أول اتفاقية توأمة مع مدينة بادربورن الألمانية، واشتدت وتيرة التوقيع على مثل هذا النوع من الاتفاقيات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بهدف تقريب الشعوب من بعضها بعضاً ومحاربة خطاب العنف والكراهية وتشجيع المشاريع المشتركة بين الدول لما فيه مصلحة طرفي الاتفاق.
وتعرف اتفاقية التوأمة بأنها وثيقة تعاون بين مدينتين في عدد من المجالات عن طريق تبادل المعلومات والخبرات والحلول لما فيه مصلحة الطرفين، ويوقعها في العادة رئيس المجلس البلدي أو المحافظ، ويتم الإعلان عن الاتفاقية في احتفالية خاصة تقام في إحدى المدينتين أو كلتيهما.
وأعطى الرئيس الأميركي السابق أيزنهاور دفعة قوية لاتفاقيات التوأمة على مستوى الولايات المتحدة الأميركية مع تدشين مبادرة «الناس للناس» في العام 1956م، حينما دعا جميع الولايات إلى الدخول في شراكة تعاون حول العالم من أجل الترويج لثقافة المحبة والسلام، ومنها بلغ عدد اتفاقيات التوأمة مع المدن الأميركية أكثر من 2400 اتفاقية.
عالمياً تعد مدينة شيكاغو الأميركية من أبرز المدن في مجال التوأمة، حيث قام عمدة المدينة ريتشارد دالي في العام 1960 بالتوقيع على أول اتفاقية مع مدينة وارسو البولندية، ويبلغ اليوم عدد الاتفاقيات ما يربو على 30 اتفاقية مع مختلف المدن في مناطق متعددة من العالم، منها مدينة عمّان الأردنية والدار البيضاء بالمغرب، كما تحتضن المدينة سنوياً مهرجاناً تراثياً لجميع تلك المدن الشقيقة بغرض تبادل الخبرات والتعرف بشكل أكبر على ثقافة الشعوب ومساهماتها في الحضارة البشرية.
تعتبر شيكاغو ثالث أكبر مدينة في الولايات المتحدة الأميركية من حيث عدد السكان بعد كل من مدينتي نيويورك ولوس أنجليس، وتشتهر بأنها مركز للتنوع الديني، وأحد أكبر المدن على المستوى العالمي احتضاناً للإثنيات والجنسيات المختلفة، وهي مركز مهم للرياضة حيث يوجد بها أعرق وأشهر الفرق الأميركية في مجال كرة السلة وأبرزها شيكاغو بولز.
مرَّت المدينة بنهضة عمرانية واسعة بعد الحريق العظيم في 1871م والذي دمر أكثر من ثلث المدينة، إلا أن المدينة تطورت باطراد حتى أصبحت اليوم رابع أهم مركز تجاري على المستوى العالمي، وضمن أكبر عشرة مراكز مالية في العالم حيث تحتضن كبريات المصارف والشركات التجارية كبوينغ وكرافت فودز وماكدونالدز ويونايتد إيرلاينز، بالإضافة إلى بورصات المال المتعددة.
الحياة الثقافية والفنية غير مهملة في المدينة على الإطلاق، إذ تتعدد فيها المسارح والمتاحف التي تعد من أبرز مقوماتها السياحية، لذلك أصبحت مركزاً إعلامياً مهماً تتخذ منها أشهر محطات التلفزة مثل إن بي سي و أيه بي سي و فوكس مركزاً لعملياتها، ولعل تسجيل معظم حلقات أوبرا وينفري الشهيرة في هذه المدينة دليل ساطع على مكانتها الإعلامية.
أما على المستوى التعليمي فتتبوأ شيكاغو موقعاً مهماً على خارطة الدراسات العليا والأبحاث حيث تضم في ربوعها أرقى الجامعات والكليات الأكاديمية المرموقة عالمياً، وتستثمر المدينة الكثير في سبيل الارتقاء بالعملية التعليمية عبر استقطاب الكوادر، وتهيئة البيئة الداعمة للتعليم والتدريب.
في المقابل تشترك العاصمة المنامة مع شيكاغو في الكثير من الخصائص منها تنوعها الثقافي والديني وموقعها الاقتصادي والمالي في المنطقة ودورها السياحي المميز بالإضافة إلى النهضة العمرانية التي تشهدها العاصمة والتي اشتدت وتيرتها مع بداية الألفية الثانية، حتى نصل إلى اشتراك المدينتين في عشق واحتراف لعبة كرة السلة.
لعل تلك الخصائص المشتركة تجعل من مدينة شيكاغو نموذجاً مثالياً من أجل بناء مشروع توأمة معها تشمل مختلف النواحي التجارية والثقافية والتعليمية والرياضية والإعلامية والمالية والسياحية والشبابية والصحية والبيئية والتنموية وغيرها.
بطبيعة الحال هذا لا يعني أن تكون المنامة دائماً هي الجهة المتلقية أو المستفيدة من تلك التوأمة، فالعاصمة تمتلك خبرة طويلة في مجال العمل البلدي وبرامج التنمية ويمكنها أن تفيد أيضاً في نواحٍ متعددة.
أبرز ما يميز اتفاقيات التوأمة مع شيكاغو هو برنامج «توأمة المدارس» الذي يوفر فرصة للمدرسين والطلبة للاحتكاك وتبادل الخبرات والتجارب لما من شأنه تطوير العملية التربوية والتعليمية وتنمية المعارف اللغوية والتعرف على الثقافات الأخرى في العالم والقيام بأنشطة علمية ورياضية مشتركة، واستقطب هذا البرنامج حتى الآن أكثر من 15 ألف طالب ومدرس وإداري، وأنا على يقين بأن مدارس العاصمة بمراحلها المختلفة حتماً ستفيد وتستفيد من تلك التجربة المتميزة إن سنحت لها فرصة المشاركة في هذا البرنامج.
يحز في النفس أن نرى مجالسنا البلدية متجاهلة الفرص التي تفتحها اتفاقيات التوأمة بين المدن في تطوير العمل البلدي وتنمية مختلف الجوانب الحياتية في المجتمع، لذلك فالدفع في هذا الاتجاه يفتح آفاقاً جديدة في مجال تعزيز التجربة البلدية عبر الاستفادة من خبرات الدول الصديقة، واتفاقيات التوأمة خطوة على هذا الطريق.
لا أستطيع أن أخفي إعجابي بمدينة شيكاغو ونجاحاتها المتعددة ، لذلك أردت لها أن تكون توأماً لعشيقتي الأزلية المنامة، عاصمة المال والتنمية
إقرأ أيضا لـ "ناصر البردستاني"العدد 3189 - الثلثاء 31 مايو 2011م الموافق 28 جمادى الآخرة 1432هـ