شمعةٌ محاطةٌ بالأسلاك الشائكة، هو شعار «منظمة العفو الدولية» (الأمنستي انترناشونال Amnesty International) التي احتفلت السبت الماضي بإشعال شمعتها الخمسين.
على مدى نصف قرن خاضت المنظمة الكثير من المعارك، دفاعاً عن معتقلي الرأي وحرية التعبير. وكان تأسيسها على يد المحامي البريطاني بيتر بيننسون، الذي كتب مقالاً بعنوان «السجناء المنسيون» في صحيفة «الأوبزيرفر» في مايو/ أيار 1961، تضامناً مع ستة سجناء برتغاليين في عهد الدكتاتور أنطونيو سالازار. هذا المقال كان إعلان ولادة أقدم المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان.
كانت فكرتها واضحة، وأساليبها بسيطة: توجيه سيل من الرسائل إلى الحكومات التي تخرق حقوق الإنسان وتصادر الحريات. وفي مرحلة لاحقة محاولة إيصال رسائل التضامن من جميع أنحاء العالم، لمعتقلي الرأي في سجون هذه الدول. كانت رسالةٌ من بضعة أسطر، أو بطاقة معايدة، تعني الكثير للسجين الذي يعيش عزلةً قاتلةً في المعتقلات.
في العقود السابقة كانت تعتمد على إرسال الرسائل البريدية، وكثيراً ما كانت تصادرها أجهزة الأمن بسهولة، ومع الأيام والتطور التكنولوجي انتقلت قضية المعتقلين إلى الفضاء الإلكتروني حيث تصعب ملاحقتها. وفي السنوات الأخيرة برزت مواقع التواصل الاجتماعي، وبات مستحيلاً كبح جماح هذه الأجيال الجديدة التي شبّت على الطوق.
تبنّت المنظمة قضايا عشرات الآلاف من المعتقلين من مختلف الدول، تمتد من شرق وشمال آسيا إلى جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية حيث تنتشر الدكتاتوريات. ومع انحسار هذه الأنظمة واستبدال أكثرها بأنظمة حكم ديمقراطية، باتت تتركّز أعمال المنظمة في منطقة الشرق الأوسط. هذا من الناحية الأفقية، أما رأسياً، فتوسّعت اهتماماتها من الدفاع عن حقوق الأفراد وحرية التعبير ومناهضة التعذيب، إلى قضايا الفقر وحقوق المرأة وسياسات الاضطهاد والتمييز العنصري، وصولاً إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعوب.
العمل الحقوقي لا ينفك عن العمل السياسي، لأنه غالباً ما يقوم بمحاولة ترميم ما خرّبته السياسة. ومن هنا انتقل التفكير إلى عدم الاقتصار على مخاطبة الدول والحكومات، وإنما الشركات الكبرى التي تتحكم وتؤثر في السياسات. وهكذا برز الاهتمام بقضايا تشغيل الأطفال ومنع العمل الإجباري وتجنيد الصغار في الحروب، والتمييز بين الأعراق، انتهاءً بمكافحة التلوث وتدمير البيئة... وهي قضايا مشتركة تهم جميع البشر في مختلف القارات.
المنظمة تضم الآن ثلاثة ملايين عضو، من 150 بلداً، فالقضايا الإنسانية تجمع كل ذوي الضمائر الحية، والنفوس السليمة، الذين ينظرون إلى الإنسان كإنسان يجب أن يتمتع بكل الحقوق دون تمييز أو اضطهاد، وفق موازين العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وألا يُنظر إليه كفردٍ في مجموعة مستهدَفة، يجري تخوينها أو تشويه سمعتها أو التلويح بسحب حقوقها السياسية أو الاقتصادية، كلما حدثت أزمة سياسية أو نشب خلاف.
في العقدين الأخيرين، أصبح العالم العربي صاحب الملفات الأكبر والتقارير الأوسع لدى منظمة العفو، بعد انتشار النظم الديمقراطية في جنوب آسيا وشرق أوروبا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وتقارير المنظمة توثّق بصورة علمية، حالات التعذيب وسوء المعاملة والاعتقال التعسفي والمحاكمات الجائرة والاضطهاد والتمييز ضد الأقليات أو الأكثريات، وتُسهّل عملها ثورة المعلومات والاتصالات. ولم يبالغ من وصفها بأنها «قوة مضادة للشر في العالم».
في أحدث تقاريرها، حذّرت من أن رياح التغيير التي تهبّ على العالم العربي باتت مهدّدَةً بسبب القمع العنيف للمحتجين في بلدانٍ معينة. ولم تتردد في انتقاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على سياسة الكيل بمكيالين في موضوع حقوق الإنسان، فتشنُّ حرباً على بعض الأنظمة وتطبطب على أخرى، مع أن «الشعوب لن ترضى بأقل من العيش بكرامة وحرية».
خمسون عاماً ومازالت الأشواك تحيط بشمعة بيتر بيننسون التي ترسل ذؤابتها ببعض الضياء في عتمة المعتقلات والسجون. خمسون عاماً من النضال الإنساني النبيل... انتصاراً لحرية الكلمة وتحرّر الإنسان
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3188 - الإثنين 30 مايو 2011م الموافق 27 جمادى الآخرة 1432هـ