لم تعد الولايات المتحدة الأميركية تتحكّم في التطورات السياسية الجارية في العالم العربي، ولم تعد الـ «سي.آي.أي» تنصّب الحكام فيه، ولم تعد أساطيلها البحرية قادرة على توفير الحماية للأنظمة التابعة لها، في هذه المنطقة من العالم.
وهكذا فقد شهدنا مؤخراً أن الولايات المتحدة الأميركية أدارت ظهرها للأنظمة الموالية لها في المنطقة العربية، وهي تتساقط أو آيلة للسقوط، بقوة ضغط الثورات الشعبية. كما شهدنا الرئيس الأميركي باراك أوباما يشيد، بل ويحتفي، بالثورة الشعبية المصرية، التي غيّرت وجه مصر، والتي باتت بمثابة درس للبشرية جمعاء. فما الذي يجري حقًّا؟ وهل باتت الولايات المتحدة مع التغيير الديمقراطي في هذه المنطقة؟ وما هي العوامل التي اضطرّتها إلى ذلك؟
في الإجابة عن هذه التساؤلات، يمكن القول إن ثمة عوامل كثيرة أدت إلى تضاؤل قدرة الولايات المتحدة على التحكم والتدخل في شئون المنطقة العربية، كما أن ثمة عوامل جديدة اضطرّتها إلى التعامل مع الواقع الجديد المتشكّل فيها. وهذه العوامل يمكن تمثلها بالجوانب الآتية:
العامل الأول، الذي ترتبط به مجمل العوامل الأخرى، يكمن في الثورات الشعبية التي عصفت بالمنطقة العربية (بدءاً من تونس ومصر إلى ليبيا واليمن والبقية تأتي)، ذلك أن هذه الثورات فاجأت العالم كله، وضمنه الولايات المتحدة الأميركية، ليس بحدوثها فقط، وإنما بحجمها واتساعها وتنظيمها وسلميتها وقوة التصميم فيها، وأيضاً لما كشفت عنه من موروث ثقافي مختزن في القوى الشبابية المحركة لها.
وفي الواقع، فإن هذه الثورات كسرت الصورة النمطية السائدة عن المجتمعات العربية المستكينة والمدجنة، فإذا بها تثور على واقع الضيم المحيط بها، بعزيمة لا تلين. وبصورة أكثر تحديداً فإن هذه الثورات أعادت الاعتبار لمفهوم الشعب (في العالم العربي)، بعد أن غيّب في مفاهيم عامة وضبابية، من مثل الجماهير والشارع العربي، أي أنها صيّرت الشعب شعباً حقاً، وأعادت صوغ ثقافته، وأعادت صهر شخصيته الوطنية، بعيداً عن الانتماءات الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية والجهوية.
وبهذا المعنى، فإن هذه الثورات أحضرت الشعب من الغياب وانتشلته من واقع التهميش، مبيّنة كذب كل الادعاءات، التي كانت تروّج، لتبرير الأنظمة التسلطية، بعدم قابلية المجتمعات العربية للحداثة والتحول الديمقراطي، وعن أن البديل لأنظمة الاستبداد إنما هو الفوضى أو سيطرة التيارات الدينية المتطرفة (والقاعدة بحسب القذافي).
هكذا، لم يكن بإمكان الإدارة الأميركية، التي كانت مترددة في الأيام الأُولى للثورة في تونس ومصر، في هذه الحال إلا الرضوخ لمطالب الشعوب في هذه المنطقة بشأن التغيير السياسي، وتقبّل التحول الديمقراطي فيها.
يذكر أن الولايات المتحدة كانت، طوال العقود الماضية، لا تبالي بمشاعر العرب، ولا تأخذهم بعين الاعتبار، لدى محاولاتها فرض إملاءاتها المهينة والمحرجة والمجحفة على الحكّام العرب، لإدراكها أن هؤلاء منقطعو الصلة عن مجتمعاتهم، ولأن واقع الاستبداد أضعف هذه المجتمعات وجعلها لا حول لها ولا قوة.
فمثلاً، عندما حاول البعض تحذير وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس من مغبّة الإملاءات التي تحاول فرضها الإدارة الأميركية على الأنظمة العربية الموالية لها (في حقبة غزو العراق)، تساءلت بغرابة: أين هو الشارع العربي؟ وبالمثل فإن «إسرائيل» كانت لا تبالي امتهان العرب والحطّ من قدرتهم وانتهاج الغطرسة إزاءهم (لاحظ تجاهلها المبادرة العربية للسلام وتلاعبها بعملية التسوية مع الفلسطينيين)، على أساس غياب ما يسمى الشارع العربي.
هكذا فإنّ الثورات الشعبية التي اندلعت في أكثر من بلد عربي فاجأت أميركا و «إسرائيل» والعالم كله، فثمة الآن شعب عربي ينهض لينافح عن حريته وكرامته، وينبغي أخذه بعين الاعتبار.
العامل الثاني، يكمن في تراجع قدرة الولايات المتحدة الأميركية على فرض هيمنتها، أو أولوياتها، على العالم، وضمنه العالم العربي، وذلك بحكم تعثر ترتيباتها في المنطقة، من العراق ولبنان إلى اليمن وأفغانستان وباكستان وإيران. ويمكن أن نضيف إلى ذلك العامل الإسرائيلي أيضاً، فإذا كانت إسرائيل تعاند السياسة الأميركية، بشأن القضية الفلسطينية، وحتى على مستوى الوقف المؤقت للاستيطان، لتسيير عجلة التسوية، فكيف سيكون عليه الأمر مع إيران أو سورية أو قوى المقاومة للمشاريع الأميركية والإسرائيلية؟
القصد من ذلك ملاحظة حقيقة مفادها أن مكانة الولايات المتحدة في العالم تراجعت كثيراً بسبب أزماتها الاقتصادية والسياسية والأمنية في العالم، وبسبب تعثر قدرتها على إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مصالحها، وأيضاً بسبب عدم قدرتها على لجم سياسات إسرائيل.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضاً، أن الولايات المتحدة لم تعد بمثابة القطب المهيمن في العالم، بسبب صعود أقطاب دوليين وإقليميين آخرين، فثمة (إضافة إلى الإتحاد الأوروبي) الصين والهند وروسيا والبرازيل والأرجنتين وتركيا وإيران.
ويستنتج من ذلك أن ثورات الشعوب العربية جاءت في لحظة تاريخية مواتية تتمثل بتراجع مكانة الولايات المتحدة، وتضاؤل قدراتها على السيطرة وفرض الإملاءات في العالم، وعلى مستوى العالم العربي.
العامل الثالث، ويتمثل بوجود تيار في الولايات المتحدة الأميركية، يعتقد أن آن الأوان لمراجعة ركيزة أساسية، من ركائز السياسة الأميركية الخارجية في العالم العربي، وهي التي تتمثل بالحفاظ على استقرار الأنظمة «الصديقة» والموالية لها في هذه المنطقة. وبرز هذا التيار على خلفية التداعيات الناجمة عن حدث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وتنامي خطر الإرهاب على الصعيد العالمي.
ومعلوم أن هذا التيار يضع مسئولية تنامي خطر الإرهاب على عاتق الأنظمة السائدة في العالم العربي، وهو يعتقد أن هذه الجماعات تتغذى من واقع تفشي الفقر والحرمان، والاستبداد والفساد، في النظم السائدة في البلدان العربية.
واستنتجت الدول الكبرى من ذلك (وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية) أن هذا الأمر بات يتطلب إحداث تغييرات سياسية جذرية وحقيقية في هذه النظم، بما في ذلك حثّ عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي فيها، ودفعها نحو مسار التحوّل الديمقراطي.
وينبغي التذكير هنا أن هذه الاقتناع هو الذي دفع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى طرح مبادرات إصلاح النظم السياسية في العالم العربي، وضمنها خطته بشأن «نشر الديمقراطية» فيه.
لكن خطة بوش تلك لاقت (في حينها) معارضة قوية من حكام البلدان العربية قاطبة، الذين اعتبروها نوعاً من التدخل الخارجي في شئونهم، ومحاولة لضعضعة نظم حكمهم، بل إن هؤلاء باتوا يحرضون على هذه الخطة، بدعوى الحفاظ على الاستقلالية والكرامة الوطنية والخصوصيات المحلية!
لكن معارضة هذه الخطة لم تقتصر على الحكّام فقط، إذ إنها شملت المحكومين أيضاً، أي أن هذه الخطة لاقت معارضة شديدة من قبل القوى الوطنية وقوى المعارضة في البلدان العربية، بسبب الشبهات التي تحوم حول سياسات الولايات المتحدة في هذه البلدان، وبسبب سياسة الغطرسة التي اتبعها الرئيس بوش، وانتهاجه الطرق القسرية، والقوة العسكرية، في التغيير، وأيضاً بسبب غزوه العراق، ودعمه المطلق لإسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين
إقرأ أيضا لـ "ماجد كيالي"العدد 3185 - الجمعة 27 مايو 2011م الموافق 24 جمادى الآخرة 1432هـ