بين منتصفَيْ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان الأوربيون في إملاقٍ وفقرٍ شديد. بعضهم كان يرهن بطانيات نومه حتى يوم تسلمه الأجر. في لومباردي وبعد موجة الجفاف كان الناس يصنعون خبزهم من النباتات البقوليّة والتوت البري. وفي شرق بروسيا ووسطها امتنع ثلث السكان عن أكل الخبز، معتمدين بدلاً عنه على البطاطا. جزء كبير منهم كانوا لا يمتلكون ستائر ولا أغطية كتَّانيَّة كافية تقيهم من البرد.
يذكر إريك هوبْزْباوْم إضافة إلى ذلك أنه وفي روكديل، ومن شدَّة الفقر كانت ألفا امرأة وفتاة يزحَفنَ في الشوارع وهنَّ يتضوَّرن جوعاً، حتى أن الواحدة منهن كانت قادرة على التهام رغيف كامل مُلطخ بالطين بِنهَمٍ لا يُوصف.
في الوقت نفسه الذي كان فيه أولئك المعانون يُكابدون الحياة المرَّة كانت البارونة روتشيلد تتزيَّن بما يُعادل مليوناً ونصف مليون فرنك في حفلة الرقص المقنَّعة التي أقامها لها خصيصاً دوق أورليان!.
كانت ضريبة ذلك الوضع المعيشي المزري الذي أنتجه التمييز والطبقية الاجتماعية هو انتشار الدعارة والوأد والانتحار والاختلال العقلي وارتفاع معدَّل الجريمة والسطو والانغماس في احتساء الخمور والنبيذ حدَّ الإغراق، حتى بدت أوروبا كأنها جَسَدٌ بالٍ يترنَّح، فيسقط ثم ينهض بالكاد بتثاقل قبل أن يسقط على وجهه مرة أخرى.
لكن وبعد استقرار الأوضاع في القارة عقب وهج الثورتين الفرنسية والصناعية تخطَّت أوروبا تلك المرحلة. كانت العوامل الرئيسية في ذلك التخطِّي العسير هو ضبط الفروق بين الطبقتين الكادحة والبرجوازية. وبدأت دول العالَم السائر نحو التحضر والدولة الليبرالية تتخلص شيئاً فشيئاً من تجارة الرِّق بعدما وصل الأمر بها لأن يكون هناك 400 ألف من الزنوج الأفارقة يخدمون كعبيد لمليون وثمانمئة وخمسين ألف رجل أبيض في أميركا وحدها.
لقد ابتلع الأوربيون جزءًا من تاريخهم المظلِم وتصالحوا معه عبر إقامة ما ينقضه فعلاً وقانوناً. لم يَعُد تجار أوروبا يُمارسون ثقافة العِزَب التي يخدم فيها العُمَّال الأوربيون سواء الإيرلنديين منهم أو القادمين من البلطيق أو الزنوج. ولم تعد قبَّعات النساء المطرَّزة والوردة المثبَّتة أسفل الترقوة والفَرْو الذاوِي على الكتف لتفرِّق بين بنات الطبقة الميسورة وغيرها من منتسبي الطبقات الأخرى. بل إن الكثيرات من أولئك تنازلن عن فارِه الثياب والمظهر الأرستقراطي لكي لا يُسبِّب ذلك استفزازاً لأحزمة الفقر التي لم تجتاحها بعد إفاضات الثورة الصناعية والتطور.
لو نظرنا إلى بُلداننا ماذا سنجد اليوم ونحن نأكل السنة الحادية عشرة بعد المئتين عن ذلك الزمان؟ هل أعدنا تجربة الأوروبيين الطبقية أم عالجنا المسألة بمثل ما عالجوها هم؟، بالتأكيد فإن المسألة ليست في مساواة مثالية بين الناس، أو مزاحمة الأثرياء، لأن من حق الجميع أن يربح ويستثري بالمشروع ليعيش هناء ويُسراً، لكن القضية هي في صورة الحياة العاكسة لذلك التقسيم الطبقي ما بين فقراء جدّاً وميسورين جدّاً.
عندما يرى الفقير أن أحداً ما يركب السيارات الفارِهة ويعيش داخل أسوار عالية تضمّ جُنَيْنَة فيها ما لذ وطاب، فإن ذلك لا يُعَدُّ جزءًا من معادلة الثَّراء المشروع وإنما هو جزءٌ أصيل من المأساة. لأنه وفي الوقت الذي يعيش فيه الفقير شظف العيش والفاقة والتفكير فيما سيأكله ويلبسه غداً هو وعياله، فإنه يرى نقيض ما هو فيه من حال تماماً. إنه ضرر معنوي قد يزيد إيلامه الضرر المادي على أصحاب الثروات التنبه له.
عندما يرى مواطن نيجيري على سبيل المثال أن كلَّ دولار يكسبه يُقابله كاسب آخر لكن بخمسة وثمانين دولاراً فهذا يعني أن الأمر لا ينتهي فقط عند ثنائية الثراء/ الفقر. وعندما يرى آخر كونغولي أن شخصاً مثله يكسب سنويّاً أكثر منه بـ 286.5 مرة فإن الأمر يبدو في غاية الخطورة. وقِسْ على ذلك في دول عربية وعالمثالية عدة.
خلاصة القول إن انعكاسات معادلة الثراء/ الفقر ليست محصورة في الفروق الطبيعية بين الحاليْن، وإنما في المشهد المفتوح للثراء والأثرياء والذي يُمارس أقسى أنواع الإذلال والاستفزاز للفقراء
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3183 - الأربعاء 25 مايو 2011م الموافق 22 جمادى الآخرة 1432هـ