يرتبط الدين في الوعي الجمعي الإنساني بالمقدّس، لأن التعالي المرجعي الذي يتحدّد بالذات الإلهية يضفي عليه شكل القداسة التلقائية، في جميع الأديان، لهذا تتأسّس الدائرة النّقدية ـ بكل تحفظ ـ في دائرة الفكر الديني داخل النَّسق العام لمؤسسة الانتماء الدِّيني، ولهذا يجتهد كل من يتصدَّر هذا المجال من الدراسات الإسلامية الى إعلان عدم معاداته للدِّين، وهو ذات ما أعلنه الراحل نصر حامد أبو زيد عندما قدّم أول محاضرة في هولندا، إذ خاطب الحضور بأنهم إذا كانوا يعتقدون أنّه متواجد في هولندا بسبب نقده للدِّين فذلك يعتبر وهمٌ يجب أن يتخلصوا منه، وهو ما اعترف به قبل وفاته لبرنامج جوزيف عيساوي في فضائية «الحرّة»، وعليه يمكن أن نمنهج الإشكال وفق معطيات الرّؤية التي تتصدى للمختلف في دائرة المُفكَّر فيه، بحيث إن المُفكِّر يعمد الى قلب طروحات المنجز الفكري والمنهجي محاولاً ترتيب أو آليات وجهة نظر جديدة تراهن على الصَّدمة، فمثلاً عندما نقول إن مشروع نصر حامد أبو زيد يرتكز على جانبين أساسيين، أحدهما يمثل «لحظة مجابهة المقدَّس الديني بأدوات التحليل النَّقدي التَّاريخي»، بما يعني إخضاع الغيبي لمحدّدات التحليل التاريخي، وبالتالي يصبح النص (القرآن الكريم) تاريخيّاً يجري عليه ما يجري على النص البشري من حيث مناهج التَّحليل والنَّقد والقراءة، وهو ما لا يستقيم مع أزليَّة القرآن كونه كلام الله المنزّل على رسوله محمد (ص)، فالتاريخية كأنّما تُخرج النص المقدّس أو النص التأسيس، بتعبير أدونيس، من دائرة الألوهية الى مستوى البشرية، وهو الخلاف الأول فيما يتعلق بدائرة الغيب، فهل يمكن تجاوز الجانب الغيبي كي يتَّسم التَّفكير بالعلمية والموضوعية؟.
يقول تلميذ الإمام مالك رحمه الله- ثوبان بن إبراهيم المعروف بـ «ذي النون المصري»: «مهما تصوّرت ببالك فالله بخلاف ذلك»، فالدِّين لا ينكر تصوُّر عناصر الغيب من قبل العقل لأن التفكير أداة العقل في بلوغ مقاصد الحياة، إلا أن ذلك الغيب هو بخلاف ذلك التصور، هذا البُعد في تمثل الغيب يمنح المتخيّل المتّسع المنطقي لتوظيف جماليات الغيب في إبداعات العقل، ولعله يدخل ضمن الغيبيات عناصر: الكرسي والعرش واللوح... المتمثلة إبداعيّاً من حيث المطلق لا من حيث التَّحديد، لأنّ البحث خلف الغيبي يمنح العقل جمالية الانبساط في اكتشاف الأبعاد المثالية في الأشياء، تلك التي لا تخضع للأقيسة العقلية، فمذهب الغزالي يتلخص في «إننا لا نقدر أن نعتبر الأقيسة العقلية أداة صالحة لمعرفة الحق، بل الأداة الصالحة لذلك هي الذوق الباطني»، كما جاء في الموسوعة الفلسفية المختصرة، وعليه عندما نقول عن الراحل نصر حامد أبوزيد: «إن صاحب (نقد الخطاب الديني) أراد إيقاظ الوعي الإسلامي المعاصر من سباته الذي طال في حضن الارتهان للغيب وسطوة الماضي...»، على الوعي أن يسجل ابتداء أن العقل الإسلامي غير مرتهن للغيب، لأنّ الغيب يندرج ضمن المنظومة الوجودية المؤسِّسة لمرجعية ثابتة، خَلُص إليها الوعي الدِّيني عن طريق الرِّضا المحض بالعقيدة التي توجب الإيمان بالغيب وتجعله أحد أركانها، فلا يصبح عائقاً أمام الاندراج المعرفي في حركة التاريخ، طبقاً لما توفره التعددية الفكرية والخلفية الثَّقافية في طبيعة النَّظر الى الغيب، حيث يتأسّس كعامل دفع في الحياة، ممثِّلا البعد الثاني المقابل للواقعي، وبذلك تضمن الذَّات توازنها الوجودي في معترك الحراك الدنيوي، فيمنح الجمالية، أي الغيب، فعالية المصدر غير المُدرَك الذي يُشعر الإنسان بالعجز الوظيفي أمام القدرة المطلقة لله عز وجل، فتتأسس مفاهيم الإبداعية المطلقة والإبداعية المحدودة التي تتشكل وفق منطق العقل، إذ تمنحه الحدود التي يشتغل ضمن أطرها وفي نطاق إمداداتها التصوُّرية التي تقع في اللامطلق، لأنّه بمجاراة المطلق سوف تبوء جميع محاولاته بالفشل كالرّائي الى السماء يحاول أن يحدّها ببصره ونقلها إلى ذهنه، فيصطدم النهائي باللانهائي والمحدود باللامحدود، وتضيع المبادرة الخلاقة في مسافات اللاجدوى التي لو وُظِّفت في إدراك عناصر الفضاء منفردة لتأسّس الارتحال المنطقي بجمالياته المتفرِّقة والمدرِكة لذواتها والمُفعِّلة لآلية النظر العقلي.
إن الانتقال من «زمن الثبات والتعالي» إلى «زمن التاريخ» يتحقق بـ «التعامل النقدي مع التراث» وفق ما يفهم من فحوى المداخلة بمنظور الراحل نصر حامد أبو زيد، لكن السؤال الذي يطرح هو هل هذا التحول يخضع في حركته لمرجعية محددة أو خلفية ثقافية، أم هو مؤسس انطلاقاً من لحظته المعزولة عن الارتكاز التأصيلي المعرفي؟
إن المرجعية الأولى تحددت في لحظة التاريخ الفاعل انطلاقاً من التواصل الفعال مع الثقافة الإغريقو ـ رومانية عن طريق الترجمة، فحدث الاستيعاب ثم الفحص والتمحيص ثم الخلق والإبداع بعرض المنتوج المعرفي المستوعَب على مرجعية محددة بأطرها التاريخية والمعرفية والعقدية، وفُرِزت بذلك معارف ورُفضت أخرى، لكن الواضح أن الفكر النقدي الحداثي في هذه الخصيصة بالذَّات يحاول أن يشتغل بمعزل عن المرجعيات المؤسِّسة للكينونة التاريخية، وهو ما يُحدِث خللاً في عملية التواصل مع التراث المبتور عن سياقاته الانبثاقية، وهو ما تحيل عليه الدراسات الحداثية بوسم العقل الإسلامي بسمة «المخيال الخلاصي الديني» الذي يشتغل ضمن اشتراطات المرجعيات الفكرية المؤسِّسة في بنيوياتها التوليدية والتركيبية عبر العصور المتعاقبة.
إن الراحل نصر حامد أبو زيد عندما يفسر تاريخية القرآن التي لا يراها تتناقض مع مصدره الإلهي، يشتغل على مصدر الوحي الذي هو عنصر غيبي متمثلاً في الله، والمتلقي المحدَّد بالإنسان، بينما تتحدد وسيلة التواصل باللغة التي تعتبر من متعلقات البشر، فلا يمكن أن نقارب الإلهيات إلا بما هو بشري، وبالتالي تنبثق تاريخية المعطيات الغيبية بما يمنحنا الانتقال من «التأويل الحرفي» الى «التأويل المجازي»، فيصبح اللوح مثلاً أسطورة، حيث يورد في مقدمة كتابه نقد الخطاب الديني، ما ورد في تقرير عبدالصبور شاهين، وجاء فيه:
«وفي المقدمة يهجم الباحث على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبي غارقاً في الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان...»
وهو ما كان يردّده الراحل أبو زيد في كل مداخلاته وكتاباته، يحدث هذا التفسير في فكره لغياب فكرة الغيب المصاحب للكينونة الصائرة إلى التاريخ، من حيث اشتغال المحدود في فضاء اللامحدود عن طريق التوظيف الجمالي للمدى اللامتناهي في تعبيراته عن الديمومة والاستمرار، وعليه يصبح الغيب عائقاً عندما تنفصل الكينونة التاريخية عن مصادر انوجادها اللاتاريخية.
تضيق المسافة بين إدراك الحقيقة الكامنة في مفاعيل الطيف الفاعل على مسرح الحدث التاريخي، والمنفتح على إنتاج الآخر، ومفاعيل الانزلاق النزقي للطيف المغتني بالذات والمنكفئ عليها، فتصبح الأصولية وصفاً شاملاً لكل من يعتمد بعد الغيب كمركز لإدارة فعل السيرورة، ويتأسس تبعاً لذلك الاشمئزاز من «لحظة الالتفات إلى الراهن الذي يعرف انفجاراً للأصولية الدينية وانكماشاً للعقل النقدي» كما يقول أحمد الدلباني.
يأتي وصف الأصولية خالياً من أي تحديد، وبالتالي، هل يمكن أن نعتبر الراحل محمد الغزالي صاحب كتاب «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» الذي كُفِّر بسببه من الأصولية الدينية المجافية للعقل النقدي، وأين نصنّف أعمال يوسف القرضاوي، محمد سليم العوا، محمد عمارة، وقبلهم الأفعاني، ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي..
إن اشكالية العقل الغيبي والعقل النقدي إذا جازت المقابلة، تتكرر ضمن الدوائر الحضارية المختلفة لبداهة حضور المقدس وحركة الدين في المعلم البياني للوجود الإنساني، على أساس أن تحقيق الانتماء الى الدين فطرة منبثقة في الوجدان العميق للكينونة، وبالتالي تتحرّر تلقائيّاً تلك المواجهات الفكرية في وجه أي محاولة للمساس بعناصر المضمون الديني المستقر في الوعي، وهو ما يفسر المواجهة الغربية لفيلمي «شيفرة دافنشي» لمؤلفه دان براون، و»آلام المسيح» لميل جيبسون
إقرأ أيضا لـ "عبدالحفيظ بن جلولي"العدد 3183 - الأربعاء 25 مايو 2011م الموافق 22 جمادى الآخرة 1432هـ