إلى تلك القطة الفلسطينية الوديعة، الغارقة في براءتها: نسرين...
مثقل بنشيج الروح...
مشرد القلب...
أتوغل في أحزان قمرية...
أرتشف ما تبقى من الدمع... أذوب في طقس الفرح الهارب وأغان قديمة، كما يليق برجل أحس أنه قذف به في هذا الوجود خطأ - حتى لو لم يصادق شذى الورد يوماً - فقط لأنه فكر في أن يقطف عنقود فرح بكر.
دوماً أكتشف - وفي الوقت الميت - أني خسرت كل الجولات... لأني أصغي لأغاني القلب الندية، وكسائر الحكايا التي ألطخ بها بياض الورق... لا يهم الزمان ولا المكان... الوجع الشجي يتمطط صامتاً... في الأعماق، يلوح براية هشاشته المنكسرة في وجه صلابة العالم، ويستعير الدمع ندى للقلب الطفل...
تخلد إلى النوم - في وقت مبكر - حين يستبد بك الحزن الجليل... لأن هذا الألم يفوق كل طاقات احتماله في صمت...
عذب أنت أيها الألم حين تكتبني وقاتل حين تستوطنني...
****
العزيزة نسرين...
انتابني بعض القلق لغيابك هذا المساء...
أرجو أن تكوني بخير.
أنتظر... أن ينقر عصفورك بعض فروع شجرة قلبي الهرمة... وأنتظر الرد على رسالتي الأخيرة... قبل أن تشيخ روحي!
****
عزيزي هشام
طمنّي عنك؟
عزيزي هشام
دعك من الماضي ولا تدع أشباحه تطاردك في كل مكان، لأني متأكدة أنك لست من ذلك
النوع الذي يسلم نفسه للبحر هكذا؟؟
أتدري أن الكاتب يحتاج إلى تلك التجارب حتى يستطيع إيجاد ما يكتبه، فنحن لا نكتب
ونحن سعداء، بل ونحن في نشوات الحزن والقهر والشعور بالحرمان.
فدعك من شخوص الماضي فهي بعد أن أصبحت على ورقك ماتت.
وأرى أن تبحث عن موضوع جديد للكتابة... أليس كذلك أرجو ألا أكون من ضمن شخوص قصتك الجديدة و...
أتدري لماذا؟؟؟
****
هشام
يمكن لأنها أنقى من الثلج؟
ولأني لا أعرف لماذا تريد أن تكتب هذا الموضوع؟
معقول ؟
أنا فهمتك من البداية؟
أنت تبحث عن نص؟؟؟
هشام أنت لا تحب إلا نفسك فقط.
كن متأكداً أنه لا يهمني... أنت حر. لكن، كما قلت لك سابقاً إن ما تحوله إلى شخصية على الورق لا يبقى له أي مكان في الواقع.
لك الأمنيات بحياة كما تريد.
لا أعتقد أننا سنلتقي، ولو على قارعة حزن.
*****
يحس ببعض الحزن لرفضها الكتابة عن التجربة. لعل سبب الحزن المضاعف ذلك الألم الذي ينتابه قبل وبعد كتابة أي نص جديد... وحالاته الغريبة: الشرود الذهني والانغماس في الذات، ولا مبالاته بما حوله... أسبوع مخاض ومكابدة كلّل بالإجهاض.
اقتنع بلاجدوائية الكتابة عن العلاقات الافتراضية، والدليل أن الكل تفادى التعليق على مادة «انترنتيات» للشاعرة جمانة حداد. هو طابو يصرون على التغاضي عنه. فثمة أشياء نعيشها، ونمارسها يومياً، لكن لا يمكن أن نفصح عنها... إنها لغة الحذف التي نمارسها لا شعورياً... وتكفي اللعنات التي طاردته بسبب نصَّي: «شهوات ضوئية « و «شات»، كما أنه ليس مكلفاً بتصحيح أخطاء الآخرين...
من حقنا أن نحتفظ بمشاعرنا الدافئة - بكل وهجها الداخلي - وأن تلوذ الكلمات بصمتها الأول... حتى تصير الحياة محتملة نوعاً ما.
وليبتعد - في هذه الخربشات على الأقل - عن الفضائحية والأحكام الجاهزة بأنه خليفة محمد شكري، وهذا ما يسبب له بعض الضيق... فلا تستغرب أيها القارئ المفترض مثلها.
انزعجت حين أرسل إليها رقم هاتفه الخلوي - في إميل - مع عبارة بين قوسين: (يمنع منعاً باتاً الاتصال نهاراً)، حتى لو كنت جريئاً في كتاباتي، كما تتصورين... فأنا ابن بيئة محافظة جداً، وخجول جداً... ووحيد رغم هذا الكم الهائل من المعجبات... ولا أجرؤ على مغازلة امرأة حتى!
فأرجو ألا تؤوِّلي كلامي خطأ عزيزتي...
****
الأبوان مع الأخ الصغير على مائدة الغذاء يحسون بخطواته تقترب... يتابعون حلقات مسلسل مغربي... حين تسلط الكاميرا على بطل المسلسل وحبيبته... يقوم الصغير بتغيير القناة، ويظهر على الشاشة شخص ملتح بوجه متجهم... يتحدث بصوت مرتفع عن نار جهنم... يمر في صمت... لا يكلم أحداً... متوغلاً في غربته الداخلية، وبملامح جادة. يتذكر أن كل محاولات الأم فشلت لانتشاله من انطوائيته وصمته...
لعله نوع من اللا إحساس بالزمن وبالآخرين (الأسرة)، والذي يتجلى بوضوح في عدم متابعته لأخبار العالم أو مجالستهم .
****
ربما هذه القصة الجديدة سببت له الكثير من الحساسية...
يضع السماعات في أذنيه... يتشرد في اللامكان واللازمان... بين «شذى إف .إم» و «راديو دوزيم».
يغيب عن الوجود ويغرق في عبق الذكرى.
هي أول أغنية شعبية تعلق بها... ربما لأنها قريبة من «الراي». هذا ما حبب إلى نفسه بعض الأغاني الشعبية للستاتي والداودي.
وينتظر على أحر من الجمر أن يختلي بنفسه في زنزانته الأثيرة، مع ذكريات (ذاك الزين العزيز في أولاد حريز).
****
متأرجحاً بين نشيج الروح والفرحة البكر... غاص في طقس العزلة الفارهة والصمت الندي. أغنية أحبها قبل خمس أو ست سنوات... التقى بشرى، وهي في طريقها إلى بيت خالتها... في ابتسامتها تورق الأشجار وفي إشراق عينيها تعشش عصافير ملونة. كان يبذر لوعته... عبر السماعات الصغرى والستاتي عبدالعزيز يتغنى بـ «الزين العزيز».
تلتفت إلى البنت الواقفة بالباب تتابعهما باهتمام ملحوظ...
- نادية... تراقبنا...
- لا يعنيني ذلك...
هي تعرف أنها مغرمة به... لأول مرة في حياته خفق قلبي لامرأتين في آن واحد. لكن، بشرى يمكن أن أقابلها في بيت خالتها بحكم الجوار والصداقة، ونادية عالمها لا يتجاوز الشرفة، ومثل أي بنت محبوسة تعزي نفسها بوهم أن تحس أن هناك من يهتم بها، ولو عن بعد...
****
ذلك الأحد الذي لا ينسى...
وقفت على ناصية الحي والقلبين... مع صديق في انتظار الإفراج عنها بعد مغادرة إخوتها البيت، وبين الفينة والأخرى... كنت أرفع عيني إلى الشرفة، وفوجئت ببشرى التي تعودت رؤيتها مع ابنة خالتها سهام... تمران من أمامي وتلقيان تحية عابرة وتتبادلان وشوشات بنات... لم تبرح مكانها من فوق السطح... ركزت سهام نظراتها ناحيتي، وأنا أراقب الشرفة،
ونسيت الشرفة وتعلقت بالسطح...
****
سررت في قرارة نفسي بطلب زوجة عمي، وهي تغادر بيت أم سهام بأن أرافقهما، وابتسامات بشرى تشد أول خيط من قلبي الهش... كنت أتضايق من «شلة» الشباب، الذين كانوا يتكومون أمام الدكان - من أجل أخوات زوجة عمي - كانت سهام تمازح أحدهم. آخر طلب من بشرى أن ترسل إليه الكاسيط. كنت أعرف أن ابنة جارتنا قحبة جميلة... فلم أجد أمامي سوى أخ زوجة عمي الصغير لأصفعه بعبارة نابية واصفاً إياه بأنه ليس رجلاً وأن دكانهم ماخور...
لم أكن أعرف لم بشرى الوحيدة التي لم تغضب، رغم أن ثورتي كانت بسببها، وألحت علي أن أرافقهما وألا أنصرف وحيدا...
****
مشيت خلفهما متسلحاً بصمت جليل، ومعهما أصغر إخوة زوجة عمي... ألحت علي سهام أن أدخل معهما... مرددة أنني شخص غريب الأطوار. اغتمنت انصراف سهام وانشغال أمها في المطبخ...
كانت إلى جانبي . حاولت أن أعتذر عن فظاظتي هامساً أني لا أحب أن ينظر أحد إلى أية بنت عزيزة على قلبي... أحرى أن يكلمها بتلك الطريقة... وبين الهمس والهمس طبعت أول قبلة على خدها، والصغير لا يفقه شيئاً.
****
رأيتهما...
وهما تتواريان عن مرمى بصري...
وجدتني مدفوعاً بقوة إلى تعقب خطواتهما...
ضبطتهما في زقاق مع شاب يضع قرطاً في أذنه وبتسريحة شعر غريبة...
لم أنبس ببنت شفة...
وواصلت طريقي دون أن ألتفت إليهما...
****
عدت إلى محراب قلبي...
من فوق السطح أشارت إليَّ بيدها ملوحة بورقة... لعلها تبحث عن مبررات وخرافات...
وقلبي الذي أحبها بمشاعر ملائكية يأبى أن تلوث بحيرته... بأمثال ذلك المسخ. ووجدتني أبصق ناحيتها... وأبتلع المرارة لوحدي...
وصرت أتجاهل ابتساماتها وتلويحها بالورقة - أياماً - كلما التقينا في الشارع مصادفة.
أبكي بلا دموع... وأعزي قلبي بأنها لا تستحق حبه...
****
التقيت سهاماً...
سألتني - معاتبة - عن توقفي عن زيارة بيتهم، وعن المشكل الذي بيني وبين بشرى معتبرة أن كل شيء يمكن أن يحل... لقد كان معي وليس معها...
اختلج قلبي...
لم أرفض دعوتها...
تحية باردة...
تتبادلان حديثاً ملغزاً...
ستعود بشرى إلى بيتهم بعد يومين...
سهام - الخبيرة في الحب والرجال - تؤكد: ستندمين وتخسرين نصف عمرك...!
لم أنبس بكلمة...
أبدو عاشقاً بدائياً، ولا أفهم حتى لم تجهش حبيبتي في البكاء... أفرحاً برؤيتي أم حزناً على فراقي؟!
تغادر الحجرة... ويتناهى إلى مسامعي بعد لحظات صوت «نصرو»، وهو يشدو بتلك الأغنية التي عشقناها سوية... بكلماتها المؤثرة ولحنها الشجي «الرماد ماهو حشيش»:
الرماد ماهو حشيش... مازلت في الشك تعيش... وعلا ش ما تفهمنيش وتمد قلبي ليا... روح روح ما ترجع ليش... انت حلفت ما ترحمنيش... إلا بكيت لك ما تبكيش... كويتني لخاطر كية... أنا نحبك بزاف يا زايد القلب زعاف... قلبي ضعيف وولاف وانتا تعذب فيا... كتفتني تكتاف... ماكانش غيرك يخلف... واش من الحب نصاب والشوق راه زاد عليا... راني نحبك ونموت (...) برهنت لك الثبوت أنا مريض وأنت دايا... برهنت لك على الحب ما كانش غيرك في القلب... ماكانش اللي يقدر يولي شريك هوايا (...) سهرتني على غفلة وبعتي لعقل بالجملة... ذبلتي قلبي ذبلة ومازال راكي تكوي فيا (...) الحب ماشي حيلة... عمّر وسربي واملا.. انكملو دي الليلة من بعدها نصيب هنايا...
****
ألوذ بالصمت...
وأحس بلاجدوى الكلام مع جارنا. في دكانه، سألني عن سبب رفضي الزواج من...
- لا أحبها ولا تحبني...
- حب... تلك علاقات شوارع!
أحس بصفعة لا أعرف كيف أردها، وأجتر المرارة... كلنا - شباب هذا الزمن الرديء - نردد أنه يستحيل أن تجد فتاة لم يضاجعها أحد!
- الزواج يحتاج إلى بيت مستقل واستقرار مادي... ولا يمكن لأية امرأة أن تتحمل العيش مع أسرة زوجها أكثر من سنتين... ستقول لك لن أكون خادمة إخوتك، وتحتاج إلى حرية في لباسها في البيت... فلا يعقل أن تبقى طوال الوقت... في ثياب خانقة مثل الراهبات، ولا يمكنها أن تتحمل تلك الوجوه المتجهمة...
يهز رأسه موافقاً وأنسحب كسير القلب.
أغرق في صمتي الموغل في الوجع...
انضم إلى «شلة» المقهى... يحكي أحدهم عن سهرة حمراء لشبان فلاحين، تشاجروا من أجل فتاة الليل الأجمل... كل واحد يريدها لنفسه.. وفي الظلام، اكتشف صاحبنا المحظوظ أن الجميلة رجل خنثى... رغماً عني انفجرت ضحكاً، وهو يعقب:
- كَاع الليل والعكَاد ينادي.(1)
وسخر آخر من بقال الحي، فقط لأنه أمازيغي.. تقول النكتة أن الأمازيغي ذهب في العيد لزيارة أقاربه، وبسبب شح الأمازيغ المعهود... خلع (بلغته) الصفراء حتى لا تبلى... فاصطدم بحجرة أدمت قدمه... لم يبال بالجرح، وخاطب (بلغته): «حفظك الله يا اصفيرة»!
ابتلعت قهقهتي، وجليسي يلكزني.. مشيراً إلى البنت التي مع أم سهام، وهما تغادران البيت...
- هذه هي ديالك(2)...
التفت بسرعة خلفي ولم أصدق عيني...
-------------------------------------
(1) أشبعوه ضرباً طوال الليل.
(2) هذه هي امرأتك
إقرأ أيضا لـ "هشام بن الشاوي"العدد 3181 - الإثنين 23 مايو 2011م الموافق 20 جمادى الآخرة 1432هـ