قبل عقود من الآن أعطى الجنرال الفرنسي الشهير ومُحرِّرها من الاحتلال النازي شارل ديغول (1890م - 1970م) عِلْمَ الاستراتيجيا نصيحة ذهبيّة. كل من يريد أن يقرأ السياسة فعليه أولاً أن ينظر إلى الخارطة. هكذا قال مُؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة والذي جاء متسقاً مع خبرته السياسية والعسكرية، وأظنه أصاب حقيقة مُغيَّبة في ذلك يجب أن يُنظر إليها بتمعن ودقَّة، وخصوصاً في ظلّ التحولات الجارية اليوم.
ففي أحوال الدُّول؛ فإن المسألة الجغرافية تلعب دوراً مهمّاً في صَوْغ السياسات الخارجية وتشكيل نظام المصالح. فالدُّول المفتوحة على جوار واسع أو ضيِّق، سواء كان بريّاً أم بحريّاً، تنتِج سياسات خاصة وحصريّة لا تتشابه في الأغلب مع سياسات دول أخرى. بل إن أيَّ مسعى لإقرار سياسات أو خطط بعيدة المدى بل وحتى قريبة ومتوسطة المدى فإنها تراعي لِزاماً المسألة الجغرافية أيَّما مراعاة؛ لأنها في الحقيقة المحدِّد الرئيس للأنظمة والدول وسياساتها وفي تركيبة نظام المصالح الخاص بها.
روسيا هي أكبر بلد في العالم (17,075,400كم²) لكن تحدِّيها الأول (وبسبب جغرافيتها البرية الممتدة) في كيفية وصولها إلى المياه الدافئة في الخليج العربي. بريطانيا أيضاً والتي هي عبارة عن مجموعة جزر، كانت جغرافيتها سبباً مهمّاً في صمودها أمام قصف الطائرات الألمانية النازية لعاصمتها إبَّان الحرب الكونية الثانية.
جمهورية إفريقيا الوسطى مخنوقة بين أربع دول، وأقرب السَّواحل إليها يبعد عنها قرابة ألف كيلومتر، وهو ما يجعلها تصوغ سياسات أمنية واقتصادية مُلِحَّة قد تساعدها على الوصول إلى مياه المحيط الأطلسي عبر الكاميرون أو حتى عبر غيرها من الدُّول. وهو حال جمهوريَّتيْ الباراغواي وبوليفيا في أميركا اللاتينية أيضاً.
جغرافيا الولايات المتحدة البعيدة عن العالَم القديم كانت عاملاً في ألا تتعرض الأراضي الأميركية لاعتداءات بريّة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل حتى جويّة وبحرية. لذلك فإن الضربات التي وجهها تنظيم القاعدة في سبتمبر/ أيلول من العام 2001 إلى برجي التجارة كانت صدمة غير عادية للآيديولوجية العسكرية للولايات المتحدة منذ تأسيسها جعلها تتصرف بهذيان وعُنف وانفعال غير معهود ضد الخارج كأفغانستان والعراق، بل تشن حرباً على العالَم كله في غضون عامين فقط.
إضافة إلى ذلك، فإن الجغرافيا تلعب دورها المحوري أيضاً في الموضوع الأمني والعسكري خلال الصراعات الداخلية والخارجية. فكل الخطط الأمنية والعسكرية تبدأ بالنظر إلى الخارطة أولاً. لاحظوا استعدادات الأميركيين في 131 حرباً دخلوها منذ استقلالهم وإلى الآن وكيف ينظرون إلى الموقع الجغرافي للأهداف بعناية فائقة. بل إنهم وفي سبيل فهم ألغاز الجغرافيا وخرائط الأمكنة واستحقاقاتها استخدموا القبائل البدائية من السكَّان الأصليين في الجزر المأهولة بالمحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية كما حصل إلى طوائف الكارجو في تلك الجزر.
في الأمور المباشرة التي تفرزها الجغرافية؛ فإننا نلحظ أن حروباً شُنَّت بسببها. أو في أضعف الأحوال مُورِسَت بسببها سياسات دبلوماسية قاسية مثل العقوبات والعمليات الاستخباراتية المضادة. لاحظوا هذه الأيام المعارك التي تدور بين السودان وجنوبه (الذي سيُعلَن استقلاله رسميّاً في 9 يوليو/ تموز المقبل) بسبب منطقة أبيي. لماذا؟ الموضوع باختصار متعلق بمنطقة غنية بالنفط والثروات الطبيعية تقع على الحدود بين الشمال السوداني وجنوبه وتمتد داخل ولايتي غرب كردفان وشمال بحر الغزال.
لننظر أيضاً إلى الصراع الأذري الأرميني حول أقليم ناغورني كره باغ الغارق جغرافيّاً في آذربيجان وديمغرافيّاً في أرمينيا. فلولا أن هذا الإقليم الجبلي والسهلي به أنهار وفيرة تولِّد الطاقة الكهربائية وتُزرع فيه الحبوب والقطن والتبغ والعنب المستخدم في صناعة النبيذ وتربية الماشية وتصدير لحومها وصوفها، وكذلك تربية دود القز للاستخدامات الحريرية لما حصل الصراع عليه وفيه بين جيرانه منذ مطلع القرن العشرين.
في أحيان كثيرة، تدفع الجغرافيا بعض الدول إلى أن تتصارع عبر أطراف أخرى. فالحرب الليبية التشادية واحتلال شريط أوزو منذ العام 1973 وحتى العام 1994 كانت بدفوع فرنسية مباشرة لطرابلس لإرغام تشاد على تليين مواقفها بشأن نفوذ الاستثمارات الفرنسية في مناجم اليورانيوم التي تشتهر بها تشاد وكانت تعتمد عليها الدولة الفرنسية بشكل رئيسي في توليد طاقتها الكهربائية عبر محطات نووية توفر 27 في المئة من الطاقة لعموم الجمهورية الفرنسية.
الغريب أن الجغرافيا أصبحت تلعب دورها أيضاً في موضوع الاستقرار السياسي والتأثير على الجوار. فانهيار النظام في تونس أثَّر بشكل مباشر على جهاتها الأصلية. فاهترأت ليبيا والجزائر ومصر. واليوم وعندما يضعف استقرار اليمن فإن دول الخليج ستكون متأثرة بشكل مباشر من ذلك الضعف، لذلك فهي تدفع لأن تبلوِر مبادرة سياسية تمنع ما يُمكن منعه من انعكاسات عدم الاستقرار على دول الخليج.
في كلّ الأحوال، فإن منطق الجغرافيا يُكيِّف السياسات الداخلية والخارجية للدول، لكنه أيضاً يمنحها فرصة لأن تقيم معادلة ناجحة عندما يتمّ تثمير الموقع مع السياسات والمصالح ومدياتها بشكل صحيح. وربما كان العديد من الدول قد أحسنت استخدام تلك المعادلة بشكل إيجابي وصحيح الأمر الذي وفَّر لها فرصاً من التنمية والعلاقات الهادئة، وأيضاً ديمومة استقرار سياسي مُمَنهَج على المستوى البعيد كما هو الحال بالنسبة إلى سلطنة عُمان التي سأفرد لها مقالاً خاصّاً أتحدث فيه عن ذلك الأمر بالتحديد لاحقاً
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3180 - الأحد 22 مايو 2011م الموافق 19 جمادى الآخرة 1432هـ