يُولد الإنسان فيجد أن اسمه ممهوراً على جبينه. ثم يجِد أن أباه فلان، وأن أمه فلانة، وأن أخاه ذاك، وأن اخته تلك. حتى بيئته يتم اختيارها له. فالجيران والأقارب وأصدقاء العائلة هم أيضاً من ذات السَّلَّة. تتسع الدائرة فيرى أنه أيضاً محكوم بجغرافيا لها متطلباتها من عوامل بشرية وطبيعية وغيرها تحدد له مصالحه وعلاقاته، وهي كلها من فروض الجبر لا الاختيار الذي يتطلب مزيداً من المرونة والديناميكية التي تدفع الفرد/ المجموع إلى أن ينسج لنفسه حالة من التعايش والتعاطي الإيجابي مع الأغيار لكي تستمر الحياة بأرباح كثيرة وخسائر قليلة ما أمكن.
وَجَدَ الألمان أنهم وريثو العرق الجرماني المتمدِّد من الشمال الأوروبي، وأنهم يُطِلُّون على خصوم تاريخيين لهم في الشرق. ووجَد الفرنسيون أنهم من سلالة الفرنجة منذ القرن الرابع الميلادي وفي الوقت نفسه على مقربة منهم جيوب من النُّظم المحافظة عندما أسَّسُوا لأنفسهم نظام ما بعد الثورة. وأدرك الصينيون أنهم يتمدَّدون على تاريخ عُمقه مليون عام أو أكثر عندما ظهرت نتوءات زايهاودو. وحين اكتشفت تلك الشعوب ذواتها وجيرتها وتاريخها والمجموع البشري المتنوع الذي تصطبغ به، أدركت أن ذلك التنوّع هو جزء من بقاء وسلامة الكل وليس الجزء، فمضى المجموع في العضّ على حق أجزائه لكي يحفظ كيانه بهم.
تهارشت القبائل والمذاهب والأديان والقوميات والأعراق فلم يُلغَ أحد أو يُرفَع آخر. أي ألماني أو سويسري أو أسباني لا يتذكر تاريخ الإلغاء والإبادات الدينية خلال حروب الطوائف التي اجتاحت مناطقهم طيلة قرنين من الزمن. وأيّ فرنسي لا يتذكر صراع القوى الثورية ما بين اليعاقبة الروبسبيريين وخصومهم في الجمعية الوطنية. وأيّ زنجي لا يتذكر سياسة الفصل العنصري البغيضة في جنوب أفريقيا. لكن السؤال الذي يُطرَح: هل تبخرَّت عظام بالرماد وطُلِيَت أخرى باللحم؟ كلا، ففي كلّ تلك النماذج صعَدَ المجموع على حساب الهوامش.
ليس الأمر متعلقاً بمسائل الدَّاخل بالنسبة إلى الدُّول والشُّعوب فقط؛ وإنما ينسحب أيضاً على ركيزة العالَم بأسره ودَيْدَنه. ولا ضيرَ هنا لو توسَّعنا قليلاً في استحضار المشهد الأبعد من الصورة. فطبقاً لما كان يقوله السير هالفورد ماكيندر في دراسته القيِّمة «البؤر الجغرافية للتاريخ» سيظهر لنا كيف أن العالم كلّه قد أصبح مسكوكاً بحالة صلبة من التَّنوع التَّام، الذي وإن بدا أن الجغرافيا تجعله متقابلاً وجهاً لوجه إلاّ أنه يبقى على سِكَّة الموزاييك الديني والثقافي والعرقي المتغاير.
كان ماكيندر يرى أن «روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى هي المركز الذي يدور حوله مصير الإمبراطوريات العالمية، وتحيط بذلك المركز أقاليم هامشيّة أربعة» ممزوجة بالديانات الرئيسية في العالَم والتي توزَّعت على اعتناقها البشرية منذ آلاف السنين، بالإضافة إلى تموضعها على الجغرافيا. (للاستزادة والتفصيل في ذلك البحث يُمكن مراجعة ما كتبه روبرت د. كابلان المراسل الوطني لـذا أتلانتيك في مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، عدد مايو/ يونيو 2009).
كان ماكيندر يقول إن هناك أرضين للعواصف؛ واحدة في الشرق حيث المحيط الهادئ، وهي موطن البوذيّة والأخرى في الجنوب حيث المحيط الهندي وهي موطن الهندوسية، يُقابلهما إقليمان هامشيان آخران في الأعلى، الأول في الشمال الغربي الأوروبي حيث المحيط الأطلسي وهو موطن المسيحية، والثاني في الشرق الأوسط الممتد من تخوم الأطلسي غرباً ومروراً بالأبيض المتوسط والشمال الإفريقي، وانتهاءً بمنطقة جنوب القارة العجوز، وهو موطن الإسلام.
هنا سيظهر أن العالَم هو بمثل تلك الصورة بالضبط وليس على نمط واحد. تجاورت الهندوسية والبوذية في الشرق والجنوب، وتجاورت المسيحية مع الإسلام في الغرب والوسط، فلم تستطع أيّ من الديانات الأربع من إقامة مقصلة الإلغاء للأخرى. وتجاور الصينيون والهنود والروس في القارة العجوز، وكذلك في الغرب ما بين أعراق شتى من سلافيين وغيرهم، لكن الأمر لم ينته إلاّ إلى صيغة عَيش إيجابية، وتشييد عقد اجتماعي وسياسي متين.
اليوم، ونحن نعيش في مجتمعنا الصغير يجب أن يُدرك الجميع أنهم ليسوا استثناء عن العالَم وتاريخه. فلا الطوائف بقادرة على أن تُغالِب بعضها بالنصر أو الهزيمة، ولا الأفكار بقادرة على إبطال أغيارها، بل حتى الأجيال ليست بقادرة على إسكات مَنْ هم أصغر منها حتى. هذه صيغة التاريخ السحيق وطبائع البشرية منذ أن خلق الله الخلق
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3178 - الجمعة 20 مايو 2011م الموافق 17 جمادى الآخرة 1432هـ