تبنى هوية الفرد جزئياً بالجماعات التي ينتمي إليها. لكن كيف تصوغ الجماعات هويتها الخاصة بها؟
كان عالم الاجتماع الأميركي «جورج ميد» من الأوائل الذين طرحوا فكرة أن الوعي للذات ليس إنتاجاً فردياً صرفاً، لكنه ينتج عن مجموع تفاعلات اجتماعية يكون الفرد منغمساً ومشبعاً فيها. فبرأيه، كل واحد يرى هويته بتبني وجهة نظر الآخرين ووجهة نظر المجتمع الذي ينتمي إليه. الشعور بالهوية ليس معطية أولية في الوعي الفردي، بل حصيلة آلية اجتماعية تتداخل خلال كل فترة الطفولة. فاكتساب اللغة يؤدي بالطفل إلى تعيين نفسه باسمه، ثم يقول «أنا». وممارسة الألعاب تعلمه أخذ الأدوار وتحمّل هويات جاهزة تماماً. إنها القواعد التي ترسخها وتثبتها العائلة والمدرسة والأصدقاء، هي التي تشكل قيم كل فرد.
أما المحلل النفسي والباحث في علم الإنسان إريك إركسون الأميركي الأصل، فقد طوَّر منظوراً مقارناً عندما بيّن أن الهوية الشخصية تنشأ من تفاعل بين الآليات النفسية والعوامل الاجتماعية. فمن جهة، ينتج الشعور بالانتماء عن ميل الشخص لإقامة استمرارية في تجربة شخصيته ذاتها. ومن جهة أخرى، من الواضح أن الشعور بالانتماء يستند إلى التماثل مع نماذج تقدمها مجموعات ابتدائية ينتمي إليها الفرد.
فالمتحد يعترف بالفرد على أنه أحد أعضائه، والفرد يعترف بنماذج التماثل وبالنماذج الأصلية المحتذى بها والتي يقيمها المتحد؛ وهي متجسدة بواسطة الشخصيات التي لها شهرة وتُقدَّم كمثال يُحتذى لأعضاء المجموعة.
وهكذا يدين الفرد نفسه على ضوء ما يكتشفه بالآخرين الذين يدينونه بالمقارنة بهم وبواسطة نموذجية تكون بنظرهم مهمة ولها مغزى.
في هذه الآلية، تلعب المتحدات كمجموعات ابتدائية، دوراً مهماً: ففي وسط العائلة والقرية، والحي، ومجموعة الرفقاء،... إلخ، تتم عملية التكيّف الاجتماعي بالنسبة إلى الطفل.
وقد أثبت التحليل النفسي أن هذا التماثل الطفولي له فعل دائم في بناء الشخصية وفي تكوين «الأنا - المثالي ومثال- الأنا». كلاهما يعملان على استبطان النظم والقيَم والمثاليات العائلية والاجتماعية. وعلى ذكر «مثال - الأنا» كان فرويد نفسه قد علّق قائلاً: «عدا جانبه الفردي، هذا المثالي له جانب اجتماعي: إنه كذلك، المثالي المشترك للعائلة والصف والأمة».
لقد جذب هذا المجال في بحث الهوية الانتروبولوجيين المهتمين بعلم الاجتماع وبالإثنيات. فقد اقترح إبرام كاردينر إطلاق اسم «الشخصية الأساس» على مجموع السمات السيكولوجية الثابتة والمشتركة بين أعضاء متحدٍ ما وحيث نفترض أنه حاصل من تأثير المؤسسات الأولية على الطفل (عناية، تربية، قمع جنسي...).
وقد اقترح بيير بورديو فكرة المظهر العام لمعرفة «هذا النظام في التصرفات الدائمة والقابلة للتغيير، والذي يضم كل التجارب السابقة، ويعمل في كل وقت مثل رحم للإدراكات الحسّية، والآراء، والأفعال»؛ هذا المظهر العام هو مشترك بين جميع أعضاء المجموعة الذين لهم عموماً نمط التجربة نفسه.
لقد جهدت سيكولوجيا التطوّر والسيكولوجيا الاجتماعية لتعميق سيرورة التفاعل بين أبعاد الشخصية الاجتماعية للهوية.
لقد اقترح بيير تاب فكرة التفاعل البنائي بين الشخص وبين المؤسسات. تلقي هذه الفكرة الضوء على آليات وسيرورة التماثل والاستبطان للنماذج الاجتماعية، مؤكدة في الوقت نفسه أن الموضوع ليس الإشباع الميكانيكي والأحادي الجانب للفرد في بيئته. وإذا كان هنالك عملية تكيف اجتماعي للفرد داخل المجموعة، لكن يوجد أيضاً عملية «تمايز» وهي سيرورة يتمايز بها الفرد عن الآخرين ويتخلّق بصفاتٍ خاصة به، ويحاول أن يؤثر بمشاريعه على محيطه الاجتماعي.
فالهوية الاجتماعية لا تظهر إذاً على أنها انعكاس بسيط أو تجاور وتجميع في ضمير الفرد وانتمائه وفي أدواره الاجتماعية: إنها كلٌ ديناميكي (نشيط فعال) حيث تتفاعل جميع عناصره في تكاملية أو في صراع. وهي تنتج عن «استراتيجيات انتمائية» يحاول الفرد من خلالها الدفاع عن وجوده ورؤيته الاجتماعية، ودمجه في المتحد، وفي الوقت نفسه يقوِّم ذاته ويبحث عن تماسكه المنطقي الخاص به.
إذا كانت الهوية الشخصية تستند إلى الاستبطان الاجتماعي، فبالتبادل تتهيأ الهوية الجماعية أيضاً بانعكاس الخواص والصفات الفردية على المجموعة. فمن الشائع مثلاً أن نسمع رجال السياسة يؤكدون: «فرنسا تعتقد... فرنسا تشعر... فرنسا تريد» باسطين رأيهم على المجموع؟... نجد هذا النهج واضحاً عند ميشوليه حين يؤكد أن «فرنسا هي شخص» فعندما نشخِّص المتحد، نصفه ببعض خصائص الفرد البشري: وحدة، تماسك، استمرارية في الزمن، إلخ.
إن تجسيد المجموعة يقوي انتماء الفرد إليها. فالمشاركة، والانتساب إلى المزايا، والإرث والقوة السياسية، والاقتصادية، أو الثقافية للمجموعة، تشجع نرجسيته.
وكما لاحظ فرويد بنفسه: «ليست الطبقات الخاصة التي تتمتع بالامتيازات هي التي تنعم وحدها بمزايا هذه الثقافة، بل أيضاً المقموعون يستطيعون المشاركة في حق ازدراء الذين لا ينتمون إلى ثقافتهم، حيث يعوضونهم بالإجحاف المُمارس بحقهم داخل مجموعتهم نفسها».
لقد دلَّ علم النفس الاجتماعي أن هناك ميل عام لتثمين المجموعة التي ننتمي إليها ولبخس المجموعة الغريبة التي لا ننتمي إليها كلما سمحت الظروف بذلك.
ينشِّط هذا الميل «روح المجموع» والانتماء إلى المتحد، مكوناً بذلك وسيلة مهمة لتقوية تماسكه وقدرته (نشاهد ذلك اليوم مثلاً في تطوير هوية وثقافة المشروع). فهوية المجموعة هي إذاً رمز وتجسيد اجتماعي مبني، ومتعلق بالأسطورة والعقيدة أكثر منه طابع لواقع موضوعي. إنه تجسيدٌ وإبرازٌ، تصوِّر من خلاله مجموعة ما وحدتها بالتمايز عن الآخرين، وتشكل فئة متماثلة محققة ذاتها، وتصنيفها وتمايزها، وحيث يتم ذلك بوجودها ذاته. كما يوجد «صراع التصانيف» تبحث من خلاله المجموعات عن قبول وإبراز هويتها أو رفض ما يُنسَب إليها.
فتثبيت الهوية ليس فقط إظهار وانعكاس الوحدة الثقافية والاجتماعية لمجموعة ما بل أيضاً إحدى الوسائل التي تحاول المجموعة أن تبني وحدتها بها. هذا المقدس المحرك يقترح على أعضائه صورة مجموع موحَّد متجاوزاً التنوعات الحقيقية.
فالهوية ليست إذاً أساس وحدة المجموعة؛ هي حاصل سيرورة وتتابع التماثل والتمايز الذي تسعى المجموعة من خلاله إلى تأسيس تماسكها وإبراز موقفها بالنسبة لمجموعات أخرى.
كل هوية تُبنى وتُحدَّد بالنسبة إلى هويات أخرى. هذه العلاقة مصنوعة من حركات استيعاب وتمثل (يصبح بواسطتها الفرد أو الفرد - المجتمع مماثلاً لغيره) ومن حركات تمايزية (بها يؤكد أصالته تجاه الآخرين).
لا تتواجد المجموعات الاجتماعية منعزلة أبداً. فهي تقيم علاقات مع مجموعات أخرى. وهذا ما يؤدي بالتأكيد إلى وعي تمايزها، لكنها تقيم أيضاً مبادلات واستعارات وتحولات الهويات الجماعية هي سيرورات اجتماعية ديناميكية وفي تطوّر مستمر حيث تبنى بالتجمع والتناقض فإلى جانب الاختلافات الناجمة عن البعد هناك اختلافات ناجمة عن القرب: «رغبة في التناقض والتمايز وتحقيق الذات».
لقد اقترح جورج دوفرو بتسمية: «التثاقف المنافس» الآلية التي تستطيع المجموعات المتعارضة أن تؤثر بها على بعضها بعضاً: «المجتمعات الإنسانية تتأثر أحياناً بجيرانها بشكلٍ سلبي. فتقاوم تبني غايات الجار أما بالعزلة أو بتبني الوسائل التقنية نفسها التي هي للجار ذاته، وذلك لتحقيق مقاومة أفضل لتبني غاياته، إما بإعداد وتدبير عادات مختلفة عمداً أو متعارضة تماماً مع عاداته. لكن مع أن رد الفعل على الوسائل والتقنيات الغريبة قد يبدو إيجابياً لكن رد الفعل على الأهداف والغايات هو غالباً سلبياً».
وهكذا فإن الهوية غالباً «تُطرح عندما تتناقض» وقد يترافق العنف أحياناً في بعض الحالات لتثبيت الهوية، مثل زمر الضواحي، ومجموعات مؤيدي ونصيري الرياضيين، والمتحدات الإثنية.
فالتناقض أو التعارض المرتبط أو الملازم لتكوين المجموعة يعبَّر عنه بنسب صفات سلبية للهوية الأخرى. ففي الواقع لا تحدد الهوية فقط بمجموع السمات الإيجابية (والتي يقترحها المجموع كمثال) بل أيضاً بسمات سلبية من خلالها يتعلم الفرد مسبقاً ما يجب عليه أن يتجنبه. وبذلك تبدو الهوية نظاماً ديناميكياً حيث هو مكان ضغط بين السمات الإيجابية والسمات السلبية. تسجل هذه القطبية غالباً في العلاقات بين هويات المجموعات. الهوية السلبية التي يقذف بها الآخر (العدو، الكافر، اليهودي، الأجنبي).
تتيح بتطهير وتوحيد وتقوية المتحد، فيتخلص بذلك من العناصر المكبوتة أو التي يعتبرها خطرة تهدد التماسك الاجتماعي.
كل هذه الآليات السيكولوجية تخدم العلاقة الصميمية بين الهوية الشخصية والهوية الجماعية. إنها مشتركة في تكوين معظم المجموعات، إلا أنها قد تكون نشطة بشكلٍ خاص في حال المتحدات. واليوم، تقترح المتحدات تدبيراً حيال اهتزاز المعايير الانتمائية الأوسع. وكما يشير جاك شوفالييه: «هناك حركة عامة جداً يبدو أنها تدفع الفرد إلى تمييز مجموعات الانتماء الأقرب إليه على حساب التضامنات الأبعد والأكثر انتشاراً: فبينما تبدو الهوية القومية صعبة الحصر أكثر فأكثر، ويبدو أن الهوية الأوروبية تواجه صعوبات في التأصل، نجد الهويات المحلية تشهد نهضة مذهلة».
إحدى تحديات مجتمعاتنا المعاصرة هي تشجيع وتنظيم تمفصل بين التجذر في المتحدات حيث يجد الفرد سد حاجاته الانتمائية والعاطفية وبين الانتماء إلى تجمعات واسعة ذات نمط تعاقدي تستجيب لمنطق العقل.
للمتحد مفهومان رئيسيان: يمكن أولاً أن يعني تجمعاً اجتماعياً محلياً مكوناً من عائلات تسكن الأرض الجغرافية نفسها وتتشارك في الثقافة نفسها مثل: القبيلة، القرية، المدينة... ثانياً، يعني شكلاً تجمعياً ضيقاً فيه روابط وظيفية شخصية وعاطفية بين أعضائه ويكون الاعتماد المتبادل عميقاً جداً مثل: العائلة، المذهب الديني، متحدات حياة أو متحدات إنتاج. أما مفهوم الجماعة أو المجموعة، فهو مفهوم أكثر ضبابية. يمكن للجماعة ألا تكون سوى مجموعة أفراد لهم خصائص مشتركة. فنقول: الشباب، الكادرات، النساء، والهيئات الاجتماعية، وتكون مرادف لكلمة فئة أو نوع.
وفي تحديدٍ أدق، يعطي القاموس الكبير لعلم النفس (لاروس) معنيين لكلمة مجموعة: المعنى الأول: «مجموعة أشخاص مؤلفة بحسب معيار موضوعي أو ذاتي، منتقى أو مفروض من الخارج ويأمر علاقاتهم (...)».
والمعنى الثاني: «تجمع أفراد مبني على تفاعل متبادل وفي داخله تنشأ علاقات تؤدي إلى الدمج».
تظهر فكرة العلاقة في هذين التعريفين مهمة جداً وتجعل من المجموعة حالة أكثر من فئة أو من نوع.يميّز ديديه آنزيو خمسة أشكال من المجموعات:
جمهور أو (جمع)، زمرة، تكتل، جماعة أولية وجماعة ثانوية.
أدخل العالم الأميركي شارل كولي التمييز بين الجماعات الأولية والجماعات الثانوية العام 1909، وأصبح بعد ذلك تقليدياً.
الجماعة الأولية هي الجماعة المحددة المحصورة والثابتة والمتميزة بحياة مشتركة وعلاقات شخصية حميمية بين أعضائها. مثال: العائلة. والجماعة الأولية هي متحد في المفهوم الثاني للكلمة.
الجماعة الثانوية هي مجموعة تكون فيها العلاقات بين الأفراد تعاقدية ومبررة بهدف معيّن ومحدّد، وهي علاقات شكلية ووظيفية مثال: مشروع، إدارة، حزب، جمعية. فتكون إذاً جماعة ثانوية مرادف لمنظمة.
على المجموعات الأولية والمجموعات الثانوية أن تقدم بنى وظيفية مكونة من قيم ونظم وقواعد وتوزِّع أدواراً تُصنَع منها المؤسسات.
هناك تمييز آخر، وهو تقليدي أيضاً، إنه التمييز بين مجموعة الانتماء ومجموعة المرجعية. مجموعة الانتماء هي التي ينتمي إليها الفرد بشكل فعلي، أما مجموعة المرجعية فهي التي تعطي الفرد قيَمَه وضوابطه، وأنماط مواقفه، وآراءه، وسلوكياته. قد تكون مجموعة الانتماء هي نفسها مجموعة المرجعية، وقد تكون مجموعة لا يكون الفرد منها، لكنه يتماثل بها (قد يتماثل المستعمَر مع المستعمِر فيتبنى قيمه وضوابطه وأنماط سلوكياته).
لقد ميّز وحلل علم النفس الاجتماعي العلاقات بين الهوية الاجتماعية وبين الانتساب إلى الجماعة، فيمكن لنا أن نميّز جماعات الانتماء من جماعات المرجعية. فقد دلت أبحاث تاجفل وترنر أن الأفراد يميلون إلى بناء هويتهم الاجتماعية انطلاقاً من معطيتين، فهم يبحثون عادة عن هوية اجتماعية إيجابية مبنية على مقارنات جيدة يمكن أن تُنفَّذ داخل مجموعات انتماءاتهم وبعض مجموعات مرجعياتهم. فعندما لا تحقق مجموعة الانتماء تقييماً إيجابياً، يحاول الأفراد مغادرة مجموعتهم أو جعلها أكثر إيجابية. يقدم «جورج آلبورت» مثالاً عن قس من أصول أرمنية كان قد قطن في مدينة صغيرة في الولايات المتحدة الأميركية. فنظر إليه السكان على أنه أرمني. ومع أن مرجعياته هي العائلة والكنيسة والمتحد الذي يعيش فيه، أكثر من أصوله. ففي واقع الأمر، أعادته نظرة السكان إلى جماعة انتمائه الإثني. وكان من الصعب أن يبني لنفسه هوية اجتماعية إيجابية ومتماسكة
العدد 3177 - الخميس 19 مايو 2011م الموافق 16 جمادى الآخرة 1432هـ