مهما كانت اتجاهاتها ومصادرها، تلتقي المقاربات والتأويلات المقترحة لتجديد الفكر الديني الإسلامي حول اعتقاد راسخ بأن هناك قطيعة عميقة بين الفكر الإسلامي والحداثة إن لم نقل، بالنسبة للبعض على الأقل، بين هذه الحداثة والدين الإسلامي نفسه. وإذا صحت مثل هذه الأطروحة فإن المجتمعات الإسلامية لن تستطيع الإفلات من المصير التراجيدي في الاختيار بين الحداثة المُستَلِبَة التي ترتكز على رفض الذات وبين هوية فاقدة لقيمتها تقود إلى الاستبعاد والتهميش. وفي هذه الحالة سيجد المسلمون أنفسهم محكومين، مهما فعلوا، بالفصام وعذاب الضمير.
فهل يشكل الإسلام بالفعل مزيجاً شمولياً بحيث إن الاعتقاد الديني لا يكون صحيحاً ما لم يكن مرتبطاً أيضا بالالتزام بأشكال خاصة من الفكر والسلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي النابعة منه بالضرورة والمؤكدة له؟ أم إن لدى الإسلام، على العكس، في بنيته العقائدية نفسها، إمكانية استيعاب المنطق العقلي الذي تتوقف على امتلاكه نجاعة أعمال الإنسان الدنيوية؟ كيف يمكن تفسير العجز التاريخي للمجتمعات العربية وما هو دور معتقداتها الدينية في ذلك؟ هل ان الإسلام هو الذي يمنع المجتمعات الإسلامية من التقدم على درب الحداثة، أم إن الحداثة، على العكس، بالشكل الذي تم فيه إدخالها وتطبيقها في معظم البلاد الإسلامية، أي كحداثة آلية وتقنية لا إنسانية؟ وما هي الأسباب التي تمنع الإسلام من التجدد اليوم إذا كان قد استطاع القيام بذلك فيما مضى؟ تكتسب الإجابة على هذه الأسئلة التي تطرحها مختلف المقاربات الحالية للإسلام أهمية كبيرة.فالأمر يتعلق هنا بتحديد دور ومكانة الإسلام في صوغ المستقبل الأخلاقي والفكري، وبالنتيجة التنظيم السياسي والاجتماعي، للمجتمعات المسلمة.
بعكس الأفكار الشائعة اليوم، لم يبق الإسلام جامداً طيلة أربعة عشر قرناً ويزيد، بل تعرض لتحولات عميقة، سواء كان ذلك على مستوى النظم العقائدية أو على مستوى الممارسات التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية.كذلك كانت التغيرات عميقة فيما يخص الفكر والمجتمع الإسلامي وجغرافيته السياسية وأنماط تنظيمه وشروط تطوره وأنماط إلمهمه.وعلى رغم تأخرها الحضاري الواضح، لا تعيش المجتمعات الإسلامية في فضاء مغلق ولا خارج إطار زمانها.بل هي منغمسة تماماً في الحداثة، بإنجازاتها الإيجابية وآثارها السلبية معاً.
لكن غياب التأسيس الفكري والأخلاقي لهذه الحداثة التي غزت المجتمع العربي كما غزت غيره من المجتمعات، وهو نتيجة هذا الانغماس الآلي وغير المفكر فيه في الحداثة، قد أفرغ الحداثة من قيمها الإنسانية، وقلصها إلى مكتسب تكنولوجي على حساب الحريات الأخلاقية والمدنية والسياسية. وهكذا فقد تحولت ولا تزال إلى تحديث لأدوات اضطهاد الإنسان في حين أن أصل شرعيتها كان تحريره.
فرضت الحداثة نفسها في الحقب الأولى في البلدان الإسلامية كنمط جديد من الاستهلاك المادي الذي يعني التفتح والازدهار. لكن سرعان ما انتهى بها الأمر إلى طريق مسدود. ففي الوقت الذي كانت قدرة الدولة على تلبية الحاجات المادية التي ولدها المجتمع العالمي تنهار، كانت آمال الشعوب وافتتانها بنمط جديد للحياة والحرية والكرامة تتأكد بقوة. ومن هنا تحولت الحداثة التقنية والآلية والمادية البحتة إلى وسيلة تجوف البشر وتفرغ حياتهم من المعنى وتدفعهم للحيرة والضياع. وما نعيشه اليوم في المجتمعات العربية لا يعبر عن مأزق الفكر الديني بقدر ما يشير إلى مأزق الحداثة: حداثة الآلة والتقنية والاستهلاك، حداثة بلا إنسان أو ضد الإنسان. فبقدر ما عجزت الحداثة عن تنمية وتشجيع الحريات الإنسانية فقد وجدت نفسها بالضرورة غير قادرة أيضاً على استخدام التقنية وضبطها والسيطرة عليها. وبقدر ما حرمت الإنسان من الذاتية والشخصية بقيت هي نفسها من دون هوية.
ولا ينبغي للأزمة الراهنة التي أثارها تطرف الحركات الإسلامية الحديثة وعداؤها لقيم الحداثة أن يدفع إلى استنتاجات وتعميمات خاطئة لا أساس لها من الواقع. إن نشوء التطرفية الإسلامية ونموها لا يمكن أن يفهما هما أنفسهما من خارج سياق تكون هذه الحداثة المفقرة المخيبة للآمال، السالبة والمستلبة والمثيرة للتمرد والاحتجاج.
وعلى عكس الأفكار المتناقلة، ليست عطالة العقيدة الإسلامية ولا جمود العقل المسلم المفترض هما اللذان يفسران تأخر بنيات مجتمعاتنا الحديثة أو الطابع السوقي والآلي اللإإنساني للحداثة، وإنما الحداثة السالبة هي التي تفسر تعطيل الفكر الإسلامي وانعدام فرص تجديده في الاتجاه الصحيح. فبتخليها عن الإنسان ضميرا وفكرا وثقافة لم تدن هذه الحداثة نفسها بالفراغ الأخلاقي فحسب ولكنها حكمت على نفسها أكثر من ذلك بالتشوش والتنافر والفساد وجعلت من العودة إلى الدين المصدر الأول لاستعادة معنى الإنسان أو شبه المعنى، أي الملجأ الأخير للفكر والأخلاق. إن الأزمة التي يشهدها اليوم مشروع الحداثة العربي كما تجسده الأوضاع والنظم القانونية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة، فكرا وممارسة على حد سواء، هي التي تفسّر، أكثر من أي مقاومة دينية أو موروث إسلامي مثالي ولا عقلاني، رفض الشعوب للسياسات التي فقدت الاعتبار والتي تعدّها وتطبقها نخب سائدة باسم الحداثة.
لا بد من أجل إعادة إطلاق الديناميكية التاريخية من إعادة تأسيس القيم المحرِّرة للإنسان. وليس هناك وسيلة لتحقيق ذلك إلا من خلال ممارسة النقد السياسي والأخلاقي والفكري. فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هوية تشوشت أو يجددوا هوية هرمت وفقدت وعيها الذاتي لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها.إن أي تقدم إنساني، أي أخلاقي بشكل أساسي، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تقدم مسيرة الحداثة الإنسانية التي تخضع العقلانية الأداتية إلى حرية الوعي والضمير، والقومية إلى المواطنة، وسلطة الدولة إلى سلطة الأمة، والتضامن السياسي إلى احترام الكرامة الإنسانية. من هنا فنحن نعتقد أن مستقبل الإسلام مرتبط بمستقبل مجتمعاته. وأن تجديد الفكر الإسلامي لن يكون بعد الآن، أعني في العصر الذي نعيش، إلا جزءا من تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه. وهو يفترض مقاربات ووسائل بحث وعمل أخرى غير تلك المستوحاة من النقد الكلاسيكي التاريخي والنصي للفكر الديني المسيحي أو اليهودي. أعني مقاربات مستوحاة من النقد الاجتماعي الذي ينظر إلى الدين عبر استخداماته الاجتماعية المختلفة والمكانة الفعلية التي يحتلها في نظم المجتمعات التي يتحرك فيها.
ولو دققنا النظر لوجدنا أن النقاش الدائر اليوم حول الإسلام ليس نقاشاً فكريا فقط يتعلق بتحديد القيم الأساسية التي تحكم مجتمعات المسلمين والغايات التي تقوم عليها مجتمعاتهم الحديثة. فهو سياسي أيضاً وربما بشكل أكبر. ذلك أن الحديث في الإسلام وتأويلاته المختلفة يرتبط اليوم ارتباطاً وثيقاً ببروز الحركات الإسلامية كفاعل جمعي سياسي يقترح على المجتمعات نمطا من الحكم ونموذجا من الإدارة والسلطة يقول إنه استمدها ويستمدها من مضمون الرسالة الإلهية ويسعى إلى فرضها على المجتمع كما لو كانت جزءاً من العقيدة الدينية. ومن هذه الزاوية يتقاطع النقاش حول الإسلام وتأويلاته المختلفة مع النقاش حول التحول السياسي والخيارات المتعددة التي تقف في وجهه: القومية منها والديمقراطية والاستبدادية. لكن فيما وراء هذا وذاك ينطوي النقاش من حول الإسلام منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على بعد جيوسياسي وجيوستراتيجي حقيقي، لأنه أصبح جزءاً من معادلة السياسة الدولية من جهة بعد أن تحول إلى فاعل دولي، في صورته المتطرفة أساسا ولكن في جميع صوره أيضا، ولأن التحولات داخل المجتمعات الإسلامية أصبحت أيضا أحد موضوعات السياسة الدولية الجديدة من جهة ثانية.وهذا ما أصبح يعطي للإسلام أو بالأحرى للنقاش حول الإسلام والصراع على تعريفه وتحديد قيمه الأساسية رهانات تتجاوز كثيرا البعد الديني والعبادي لتصب في معارك وطنية وإقليمية وحضارية تشكل اليوم جزءاً من صراعات العولمة الكونية.
كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال حول التأويلات الدينية من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي ستحكم إعادة بناء المجتمعات الإسلامية المفككة أو اجتماعاتها السياسية؟ وكيف يمكن تجديد الفكر الإسلامي الديني من دون تحرير الدين من الاستخدامات السياسية والاستراتيجية؟ وكيف يمكن فصل الرهانات الدينية عن الرهانات السياسية عن الرهانات الاستراتيجية مع استمرار انحلال الدولة واستمرار منطق الحرب الحضارية؟ وكيف يمكن بلورة وعي ديني جديد قائم على الممارسة الشخصية والخصوصية في الوقت الذي تفتقر فيه الحياة السياسية العربية والإسلامية إلى قيم الحرية الفردية واستقلال المبادرة الشخصية.
لا يشكل الإسلام اليوم المصدر الأول لتكوين الوعي ولتربية الأفراد مع تراجع نفوذ وصدقية الثقافة الحديثة وعقائدياتها الاشتراكية والرأسمالية ولا المنتج الرئيسي لمشاعر الولاء والانتماء المكونة لجماعة فقدت أسس وجودها القومية في أكثر من مكان ولكن، أكثر من هذا وذاك، مصدر التضامن الروحي والسياسي الأساسي في مواجهة الضغوط السياسية والاستراتيجية والثقافية التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة والحرب الطاحنة الاقتصادية والاستراتيجية التي تثيرها في إطار البحث عن الهيمنة الدولية بين التكتلات العالمية.
وكما سيكون من الصعب تجديد الفكر الديني من دون فصل الرهانات الروحية عن الرهانات السياسية سيكون من المستحيل تجديد الفكر السياسي وتحريره من النزعات المعادية للخارج وبالتالي من نزوعه لاستخدام التعبئة الدينية دون وضع حد للحرب الحضارية التي تعني قبل أي شيء آخر اليوم توسيع دائرة الضغوط المادية والمعنوية على المجتمعات الإسلامية
إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"العدد 3177 - الخميس 19 مايو 2011م الموافق 16 جمادى الآخرة 1432هـ