أول لقاء لي مع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي حدث قبل سنوات، يوم أن قدمته في أمسية شعرية أقامها نادي العين الرياضي بإمارة أبوظبي. قرأ الكثير من جميل الشعر كما قرأ الكثير من رديئة، أشاع الكثير من التفاعل الجميل، كما أشاع الكثير من الضجر أيضاً.
منذ رائعته «الموت على الأسفلت» لم يكتب الأبنودي نصاً نعرف من خلاله الأبنودي، سمرته، نحافته، فرحه، مسرحته لأجواء ومناخات شعره، لم نعرف بوهيميته.
بعد «الموت على الأسفلت» تركنا على الأسفلت، تغلي جلودنا ودماؤنا على صفحته. وفي الليل تركنا، مجموعة من التماثيل الجليدية.
لا «الاستعمار العربي» استطاع أن يقنعنا بطاقة هذا الصوت، ولا سواه من الأعمال دفعنا لنعيد النظر في قناعاتنا. انتشرنا في القاعات. رمقنا ببصره ولفترة من الزمن، دون أن يقول شيئاً، وحين قرأ وأنهى الأمسية، صفقنا، ليس لما قرأ؛ بل لصمته الذي قاله قبل بدء القراءة.
أعمال الأبنودي التي أنجزها في مطلع حياته الإبداعية كانت تسري في المدن العربية. تخرب ليلها، دون أن تعتذر، دون أن تشعر بندم على خطوة كتلك.
وصفني أو بالأصح وصف نحولي «بالمكنجة»، أما أنا فلم أحفل بوصف «هو»؛ إذ لا أملك ذاكره المؤرخ ولا دقة الرحالة. ملامحه مجموعة من التضاريس المتناقضة. بشر كثيرون يستوطنون ملامحه، كما يستوطن شعره، مشروع السخرية الكونية لعالم العرب ودنياهم.
في «الموت على الأسفلت» كان الدخول إلى الأبنودي سلساً وصعباً في آن. سلساً كونه يمسرح ما لا يمكن مسرحته وتقودك هذه المسرحة لمبايعة حبر وحرف الرجل، وصعباً لأنه شاء صعوبة الموت في جسد يُقبر أكثر من مرة في اليوم. وشاء صعوبة الأسفلت - العالم - الذي يهرول فيه الوعي والذاكرة العربية نحو حتف مشروط، كما الحياة مشروطة عليهما. وصعوبة ثالثة، هي النِيل، ذلك الذي تعاقب عليه لصوص الحضارات، يشخب وريده منذ آلاف السنين، لكنه يظل «حبل السره»، يظل أكثر قدرة على تجدد دمه وروحه. عبدالرحمن الأبنودي... أبحث فيك عن عبدالرحمن الأبنودي
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3176 - الأربعاء 18 مايو 2011م الموافق 15 جمادى الآخرة 1432هـ