العدد 3173 - الأحد 15 مايو 2011م الموافق 12 جمادى الآخرة 1432هـ

كَشخة من غير فايدة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما بين الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2010 وهذه اللحظة 150 يوماً. حينها كَتَبْتُ مقالاً عنونته بـ «زماننا أفضل». قلتُ فيه: بأنني «أتَبَجَّح دائماً حين أدرك أنني فعلاً أعيش في هذا الزمان. وربما أغْتمُّ أيما غُمَّة حين أتخيّل نفسي لو أنني عشتُ في زمَن ولّى منذ مئة عام». كنتُ أستند حينها إلى المشكلات الموروثة وإلى ما عاناه الآباء والأجداد من شَظَف العيش، مُقارنة مع زماننا هذا الذي وَفَّر لنا صحة وتعليماً ووسائل اتصال أفضل. اليوم تبيَّن لي أنني أسأت التقدير في المقاربة بين الزَّمَنَيْن، مع ضرورة الترحُّم على ذلك الزمان وتقبيل ناسه على جباههم.

تذكرت مقولة الكاتب والشاعر الايرلندي أوسكار وايلد عندما قال: «الخبرة هي الإسم الذي نَصِفُ به أخطاءنا» وهو حالي اليوم بالضبط. فبعد أن طَحَنت عظامنا أزمتنا الحالية ظَهَرَ ما يُؤكِّد ذلك فعلاً. فآباؤنا وأجدادنا الذين لم يحظوا لا بنظام صحي متقدّم، ولا بشبكة اتصالات عنكبوتية، ولا بنظام تعليمي جيّد، ولا بنظام رفاه اجتماعي بِحَدِّ الكفاية (أو الكفاف حتى) أداروا مشاكلهم الاجتماعية بطريقة أليَق منا بأميال ضوئية. هذه هي الحقيقة المُؤكَّدة.

كنتُ أقول لأحد الإخوة الأعزّاء ممن أستأنِس بالحديث معه: كيف يستقيم الحال مع شخص مُتعلِّم، يلبس ثوباً ناصع البياض، ويعتمر شماغاً وعقالاً، وله شارب طرفاه مُدَبَّبان. ويضع نظارته على أرنبة أنفه ثم يقول كلاماً آسِناً في علاقة الناس ببعضهم، وينفث ما يزيد من شرخ اجتماعهم وتآلفهم؟! ردَّ صاحبي بعبارة عَلَقت بمسمَعي: ما يلبسه ذاك المتعلِّم ما هو إلا (كَشخَة خَلاقِين من غير فايدة). نعم، هو كذلك، فهو لا يُعبِّر عن مشروع مُثقف مُتمدِّن يُسعِفه عِلمه.

أتذكّر اليوم مسألة صناعة احترام الذات في مجتمعنا التي تحدثنا عنها. هذه الذات التي من المفترض أن تكون صيغة تسوية وطنية لكافة القضايا السياسية وللحقوق الفردية والجماعية للبحرينيين جميعهم معتمدة على حقائق التاريخ وشرعية الإنجاز الذي تحقق طيلة العقود الثمانية الماضية على أيدي البحرينيين من الآباء والأجداد والأمهات والإخوة، لصالح الجميع دون رائحة مذهبية ولا طعم طائفي ولا لون فئوي ولا جهوي تلوِّث ذلك الإنجاز.

أقول ذلك مستنداً على التاريخ البحريني الذين أظهرت سنينه وتجاربه السابقة أنه لا يحتاج إلا لجوقة مثقفين واعين يقرأونه جيداً ثم يأخذون الماضي ليَصِلُوه بالحاضر، لكن ذلك لم يحصل. فتجربة العام 1928 وتجربة العام 1932 وتجربة العام 1934 - 1935 وتجربة العام 1938 والأعوام 1942 و1948 و1965. وحتى تجربتي المجلس التأسيسي في العام 1972 والمجلس الوطني في العام 1973 كانت كلها مشاهِد يُمكن البناء عليها في مسألة إنتاج حالة وطنية تقودها الجماعات النابِهَة والمتعلّمة والواعية، إلا أن تلك الجماعات شاخَ عقلها وفشلت في الاختبار.

إذاً ما جَرَى لدينا بالتحديد هو انفصال تاريخي خطير بين جُدُودِيَّة شحيحة العِلم لكنها واعية، وأخرى شبابيَّة وفيرة العِلم لكنها خاوية جوفاء. لم يتمكَّن هذا الجيل من إقامة وَصْلٍ اجتماعي متماسك بين حاضره وبين ماضيه الذي صنعه مَنْ سَبقوه. بل إنه لم يقتصر على ذلك القطع السلبي فقط، وإنما سار في طريق مُتثلِّم القاع، ورَاجِف الخطَى، وكأنه يُعيد أسوأ تجارب البشر في الخصومة والاحتراب والعيش في الرِّيبة الدائمة، والتشجيع على القطيعة، وإقامة الحواجز الاجتماعية والدينية مع الأغيار، وكأننا في كانتونات السويسريين سابقاً.

لننظر إلى الحالة الأوروبية جيداً خلال مرحلة بناء الأمّة. فما بين مشروع جيسيبي ماتزيني الخاص بالانتقال بأوروبا من التشظِّي إلى النمذجة وبين دعوات وودْرو ويلسون في بدايات القرن المنصرف استغرق الأمر أكثر من 62 عاماً، لكن وخلال تلك الفترة الفاصلة ما بين ماضٍ ولَّى وحاضر يَسْتعِر أقيمَت أفضل قنوات الاتصال ما بين الحقبَتين والمشروعَين، إلى أن استقرت أوروبا بأوسعها بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية على صيغة من التصالح والاتفاق القومي والجماعي ما بين شعوبها التي قسَّمتها حروب الطوائف. أما نحن فلم نستفد من ذلك أبداً.

عندما تقرأ تاريخنا الاجتماعي تلمح تاجر اللؤلؤ الذي جارَ عليه الزمن حتى رَكِبَه الدَّيْن واجتاحته الفاقة في نهاية العشرينيات من القرن المنصرف، فيأتي تاجر من زملائه (وهو من مذهب آخر) فينتشله مما هو فيه. وعندما تقرأ التاريخ أيضاً ترى أنه وبعد التحوُّل الاقتصادي وتطبيق الإصلاحات الإدارية، وانخفاض عدد السفن من 2000 سفينة باحِرة، إلى 12 سفينة في العام 1953 كيف أنشأ البحرينيون نظاماً اجتماعياً تكافلياً في التجارة المتبادلة، وإقامة أفضل العلاقات الشخصية وأليقها في الشركات النفطية التي انتسبوا إليها لاحقاً.

أما في هذا الأوان، فإننا نجد من يُخالف ذلك بالمطلق، وكأننا نعاكس نشأتنا وهويتنا وتاريخنا المنحوت. وإذا ما رامَ البعض اتباع ذلك السلوك المشين، فإن التاريخ سيكتب علينا أسوأ صورة سعى الأقدمون (جزاهم الله خير الجزاء) لأن يجعلوها بيضاء ناصعة ومُشرِّفَة. وليتذكر الجميع الآن كلمة الناشط السياسي الأميركي مارتن لوثر كنج عندما قال للأميركيين بِيضاً وسُوداً «علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو الفناء معاً كأغبياء». وهي دعوة تناسبنا أيضاً

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3173 - الأحد 15 مايو 2011م الموافق 12 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً