الحمد لله على ما ساقته إدارة الأوقاف الجعفرية مشكورةً، من تطمينات بعدم تعرّض مسجد الصحابي الجليل صعصعة بن صوحان التاريخي للهدم والتسوية بالأرض.
المقام التاريخي الواقع في منطقة عسكر جنوب البلاد، هو أقدم معلمٍ إسلامي في البحرين على الإطلاق. حتى مسجد الخميس الشهير، بُني بعده بعدة قرون، في فترة حكم العيونيين، نسبةً لعاصمتهم «العيون» بقلب الاحساء.
في مثل هذا الشهر من العام 2008، قمنا في «الوسط» بعدة جولات ميدانية في عدد من مساجد البحرين المهملة، للمطالبة بالاهتمام بها. وفي الحادي والعشرين منه، كتبت مقالاً في هذه الزاوية، بعنوان «المساجد التاريخية والمقامات»، بدأته باستهلالة تقول بالحرف الواحد: «الكتابة عن تعمير مسجد الصحابي صعصعة بن صوحان العبدي في جزيرة البحرين، كتابةٌ يختلط فيها الماضي بالحاضر، والتاريخ بالجغرافيا، والبيئة والوعي الحضاري... وحتى السياسة».
نحن في البحرين لدينا مسجدٌ واحدٌ فقط يحتضن قبر صحابي جليل، وهو صعصعة بن صوحان، الذي قال عنه العسقلاني في «الإصابة»: «له رواية عن عثمان وعلي، وشهد صفين مع علي، وكان خطيباً فصيحاً»، وذكره الذهبي فقال: «ثقة معروف»، ونقل القول بوثاقته عن ابن سعد والنسائي. أما ابن عبد البر فقال في «الاستيعاب» إنه كان مسلماً على عهد رسول الله، وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس، وكان فصيحاً خطيباً عاقلاً لسِناً ديِّناً فاضلاً بليغاً». ولبلاغته وصفه الإمام علي (ع) بـ «الخطيب الشحشح». وقد شهد معه حروبه الثلاث (الجمل وصفين والنهروان)، بل كان من ضمن الوفد الذي حاول تجنّب الصدام في حرب الجمل، وولاه على مدينة اصطخر (جنوب إيران) حين عزل المنذر بن الجارود كما يذكر اليعقوبي. وبعثه مرةً بكتاب إلى الشام، وعندما سأله معاوية استخفافاً: وما كان عبد القيس؟ أجابه مفتخراً: «كان خصيباً خضرماً أبيض وهّاباً لضيفه ما يجد، ولا يسأل عما فقد... يقوم للناس مقام الغيث من السماء». فلمّا خرج قال معاوية لقومه: «هكذا فلتكن الرجال». أما أم المؤمنين السيدة عائشة فخاطبت أخاه زيداً في كتاب بقولها: «أما بعد، فإن أباك كان رأساً في الجاهلية وسيّداً في الإسلام».
بنو عبد القيس لم يكونوا على هامش الحدث الإسلامي، فقد استقبلهم الرسول (ص) في المدينة بقوله: «مرحباً بوفد قومٍ لا خزايا ولا نادمين»، وأمر صحابته بإكرامهم. وشاركوا في الفتوحات أيام الخلفاء الراشدين، وشاركوا أيام عليّ في حركته التصحيحية، كما استشهد بعضهم في معركة كربلاء. ومن أشهر أعلامهم هذا الخطيب المفوّه (صعصعة)، رضي الله عنه وأرضاه، وقد شهد له الإمام الصادق بقوله: «ما كان مع أمير المؤمنين من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه»، وهي شهادة تهتز لها القلوب.
وُلد صعصعة في جزيرة دارين (بالقطيف) سنة 24 قبل الهجرة، واستوطن الكوفة، وتوفي سنة ستين في جزائر البحرين بعد نفيه إليها، حسب بعض الروايات، أما ابن حجر فذكر تحديداً أن المغيرة نفاه من الكوفة إلى البحرين.
في تلك الجولة، التقينا قيّم المقام، وكان شيخاً كبيراً تجاوز السبعين، فتحدّث معنا عن ذكرياته. ولما عرف أنني من البلاد القديم وزميلي المصوّر من المنامة، سألنا عن بعض أصدقائه القدامى، وأخذ يسرد علينا بعض الأشعار الشعبية التي تعبّر عن التواصل والحنين.
المؤسف في إعلان الأوقاف الجعفرية، أن مسجد الصحابي الجليل وإن لم يتعرّض للهدم، إلا أنه تعرّض للتعدّي والتخريب عدة مرات، والعبث بالضريح وسرقة محتويات المسجد بما في ذلك المكيفات، وكان آخر التعديات بتاريخ 15 مارس/ آذار، وقد تم إبلاغ الجهة المعنية بالأمر. وأهابت بالجميع لاحترام قدسية دور العبادة في مختلف مناطق البحرين وعدم المساس بها أو تعريضها للإساءة لأنها من شعائر الله. وهي دعوةٌ صادقةٌ ومحقةٌ للحفاظ على دور العبادة من العبث، وتدخل في صميم واجبات وزارة الشئون الإسلامية، كما تدخل في صميم مسئولية وزارة الثقافة في الحفاظ على أهم المعالم التاريخية والآثار
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3170 - الخميس 12 مايو 2011م الموافق 09 جمادى الآخرة 1432هـ