دائماً ما يلعب أصحاب الأيديولوجيات الدينية والسياسية على كسب الكتلة الصامتة غير المسيسة أو المؤدلجة في المجتمع لصالحهم، وهم في ذلك تتعدد مداخلهم انطلاقاً من أن المجتمعات العربية هي بطبيعتها مجتمعات متدينة ويلعب الدين دوراً كبيراً في تشكيل عقليتها وطريقة تفكيرها، من هنا جاء مدخل الإسلام الراديكالي إلى عقول المجتمع باللعب على هذه الطبيعة المتدينة ومحاولة كسبها في صفها بناءً على هذا المتغير، فاستطاعت في الكثير من الأحيان ولظروف اجتماعية كثيرة أن تكسب هذه الكتلة الصامتة وتبطل مفعول عقليتها بانصياعها لنخبتها الدينية وعدم القدرة على الحركة خارج إطار رؤيتها ومنظورها، مدشنة بذلك شكلاً من الاستبداد الديني الأكثر خطورة من الاستبداد السياسي في كون الأخير يمكن الثورة عليه، أما الديني فيكون هناك خوف وتردد في العمل ضده لأنه مرتبط بعقيدتهم الدينية، والسؤال هل يثور الشباب على السلطوية الدينية بنهج ثورته على الديكتاتورية السياسية؟ وخصوصا أن متغيرات تشكيل العقول خرجت عن نطاق النخب الدينية والحكومية بسبب الواقع الافتراضي بقدرته على خلق جيل جديد من الشباب غير المقيد بأطر واحدة للمعرفة، ومن خلال المتغيرين الآتيين يمكن الإجابة على هذا السؤال:
أولا: كيف كسب الإسلاميون الكتلة الصامتة في الماضي؟ ما يلفت النظر على مدار العقود الماضية أن الإسلاميين كانت لديهم القدرة الكبيرة على ملء هذه الكتلة الحرجة والفضاء المجتمعي بأشكال مختلفة لأسباب متعلقة بالأساس بالاستبداد السياسي وضعف هذه المجتمعات تجاه الدين، فالكتلة هنا قد تكون سبباً وفضاء في الوقت نفسه، بمعنى آخر قد يوجد حدث وليكن مثلاً الاعتداء على المقدسات الإسلامية في القدس، فحدث مثل هذا لديه القدرة على تحريك الكتلة الصامتة المسلمة ودغدغة مشاعرها، ولكن تحريكها لا يتوقف على الشعور فقط وإنما يحتاج إلى توجيه وتوظيف هذه المشاعر لتخرج في شكل احتجاجات أو مظاهرات، وهو ما نجح فيه الإخوان المسلمون باقتدار في قدرتهم على كسب وتحريك الكتلة الصامتة غير محددة الاتجاه أو الانتماء لتصب في خدمة مصالحهم، بالأخص في مظاهرات الجامعات التي كان يسيرها المنتمون لها على مدار العقود الأربعة الماضية على خلفية أفعال تقوم بها إسرائيل أو أميركا في بلاد المسلمين وندر أن تجد مظاهرات تتعلق بالأوضاع الداخلية في مصر.
ثانياً: الأجيال الجديدة تزاحم الإخوان على الكتلة الصامتة: فمنذ انتخابات 2005 في مصر وبداية ظهور حركة كفاية في السنة السابقة لها بدأت تخلق لنفسها مجالاً حرجاً وتستقطب فيه فئات عدة من الشباب ومن القوى الاجتماعية الرافضة لطول فترة الحكم وتوريثه، وخلقت ما يشبه الحراك في المجتمع بتحرك النقابات المهنية مثل نادي القضاة وأساتذة الجامعات، لتكون لديهم الشجاعة في تبني المطالب نفسها وغيرها، وهو الأمر الذي بدا مفاجأة للإخوان المسلمين الذين كانوا يتسيدون هذا المجال وكونهم هم الوحيدون الذين يمتلكون النقد ولديهم الجماهيرية في الشارع، فوجدوا أن البساط الإعلامي والمجتمعي أخذ ينسحب من تحت أقدامهم، الأمر الذي جعلهم يتعاملون مع هذه الحركات بمنطق تعال بحيث يوجد ممثلون للجماعة في هذه الحركات ولكن في إطار استقلالية الجماعة بهدف أن يكون لها تمثيل وألا يكون هناك قوى مجتمعية موازية لها تمثل المعارضة الجماهيرية في الشارع، واستمر الحال على هذا المنوال، فهم لهم ممثلون في كل جماعات التغيير التي كانت تنشئها القوى السياسية ليس بهدف الاندماج والتوحد معها، وإنما بهدف عدم تركها تستولي على الكتلة الصامتة في المجتمع التي بدأت تذهب إليه، وقد شكل، في هذا السياق، ظهور محمد البرادعي على الساحة السياسية مفاجئة ليس فقط للنظام الحاكم وإنما للإخوان بقدرته على جذب هذه الكتلة الحرجة من المجتمع من المؤيدين له ليكون هو البديل للحكم وليس الذي يخطط له النظام، فهو بات لحركات الشباب الجديدة بديلاً جيداً لانتقال السلطة ونجح في أن يكسب حوله قوى ليبرالية علمانية ويسارية بعيدة عن التوجهات الدينية، وهو ما عد ضرباً لشرعية الإخوان المبنية على الدين… وهذا السيناريو المدني للتغيير هو الذي استطاع أن ينجح ثورة الشباب في 25 يناير/ كانون الثاني بالقدرة على كسب هذه الكتلة الصامتة وتحويلها ليس في تحقيق أهداف دينية وإنما هدف مدني متجسد في إسقاط النظام، وعندما التحق الإسلاميون بالثورة بعد أن نضجت لم يكونوا من صانعيها، فكل الهتافات والشعارات والأعلام توحدت حول هذا الهدف بعيداً عن التوظيفات الأيديولوجية وخصوصاً الدينية التي وجدت نفسها وسط الحدث ليست كزعيمة لهذه الثورة كما يريد لها أصحابها، وإنما شأنها شأن الكثيرين من أصحاب التيارات الأخرى الليبرالية والسياسية المتفقة على هدف إسقاط النظام… إلا أن الأمور على أرض الواقع بدأت تطرح السؤال بعدما بات مغريا، لمن تكون المكاسب التي فجرتها هذه الثورة الشبابية؟… فعندما لاحت بشائر انتصار الثورة بدأت تظهر مظاهر الصراع الخفي لخطف ثورة الأجيال الجديدة من قبل الإسلاميين الذين بحكم تواجدهم الطويل واضطهاد النظام لهم كانوا أكثر تنظيماً وقدرة على التوجيه على عكس الأجيال الجديدة من شباب الثورة التي تبلورت حول الروح الجماعية ووحدة الهدف والجرأة والشجاعة في طرح مطالبهم والإصرار عليها حتى لو كلفهم الموت في سبيل تحقيقها. ويؤكد ذلك التحول ما حدث يوم 19 مارس/ آذار الماضي باستخدام متغير الدين من قبل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين في عملية الاستفتاء على تغيير بعض مواد الدستور المصري، الذي يعتبر أنه سقط بحكم سقوط نظام الرئيس مبارك، من أجل توجيه تصويت الناخبين ليصوتوا بشكل يخدم مصالحهم كنوع من إثبات الوجود، وأنهم أصحاب الثورة حتى لو استعانوا بما ليس شرعيّاً في العملية السياسية بتسخير خطب الجمعة لتتحدث عن حرمة التصويت بـ «لا» في شكل بدا مضحكا من عقلية الثقافة الدينية لهذه الجماعات وخطورتها في الوقت نفسه والتي تعمل وفقا لمنطق القطيع.
والسؤال هو هل تنجح ثورة الشباب في أن تجني ثمارها بعيدا عن ثقافة القطيع للإسلاميين والتي لا تختلف، حتى الآن، في رؤيتها السياسية والمدنية عن رؤية النظم الاستبدادية بقصر نظرها وفرضها الكبت المجتمعي والسياسي باسم الدين على المجتمع؟، أو بمعنى آخر هل تكون لهذه الثورة فوائدها أيضاً في أن يغير الإسلاميون من أفكارهم ويتبنوا أفكاراً انفتاحية تتواكب مع هذه التطورات، أم سيسيرون بأجندتهم الدينية نفسها التي ستصطدم بملفات كثيرة داخل المجتمع بالأخص المسيحيين الذين يشكلون 8 في المئة من نسيج المجتمع المصري… أسئلة كثيرة باتت تطرحها ثورة الشباب المصري إذا كانوا استطاعوا أن يثوروا على الديكتاتورية السياسية ذات البعد الواحد، فهل بالمثل يستطيعون أن يقوموا بالعمل نفسه ضد الديكتاتورية الدينية المنغلقة والسلفية في أفكارها… كل هذه الأمور مطروحة للواقع في أن يجاب عنها في الأيام المقبلة
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3168 - الثلثاء 10 مايو 2011م الموافق 07 جمادى الآخرة 1432هـ