حين ودعت رام الله مقرراً التوجه إلى مدينة (جنين)، ضمتني رام الله إلى صدرها، وأسدلت على رأسي شعرها الأسود، فنظرت في وجهها القمري، فهمست: احذر أن تستلبك جنين مني، فتعشقها، وتوقعك في سِحرها. فهمست لها: وهل تمتلك جنين كل هذه القدرة؟ فابتسمت وقالت: وهل زارها أحد منذ جدك كنعان ولم يقع في حبائل سِحرها والعشق؟ ألم تسمع ما قاله شاعر قديم حين زار جنين وغادرها ففاضت روحه عشقاً:
«يا حبذا يوماً في جنين مضى
كالغرة البيضاء في وجه الزمن
فيها ثلاث للسرور تجمعت
الماء والخضراء والوجه الحسن»
فابتسمت وأنا أستعد لزيارة جنين بعد طول فراق، فأرواح الشعراء الذين زاروا جنين أو مروا بها تعلقت بها، فخلدوا ذلك بأشعارهم وبوح أرواحهم، وبقي هذا الشِّعر عالقاً بلساني منذ جهزت نفسي وأقلامي وعدسة التصوير مودعاً رام الله، ومتجها إلى جنين صبيحة الثلثاء السادس والعشرين من أبريل/ نيسان 2011.
لجنين في الروح مكانة خاصة، فمنذ تفتحت عيناي على الدنيا وهي ترتبط في ذاكرتي بأحاديث الآباء والأجداد؛ جمالها، وطيبة أهلها، وشهامة رجالها، ورقة حورياتها، والبطولات التي سطرها الرجال، ومازلت أذكر ما قرأته عن وقفة أهل جنين واستلهامهم مشاعر أهالي فلسطين لنجدة عكا، وقد كادت القوات العربية بقيادة يوسف الجرار، التي قادها لنصرة أحمد باشا الجزار أثناء حصار عكا، أن تفتك بجيش (كليبر) قائد القوات الفرنسية، بعد أن حاصرته على مقربة من جبل (طابور) في مرج بني عامر، ولا يمكن نسيان ثورة القسام ودمائه والأبطال الذين رافقوه، والتي روت أرض جنين، وصولاً إلى ما نحياه الآن، متذكراً شهداء ملحمة جنين التي سطروها بدمائهم وصمودهم إبان الاجتياح الإسرائيلي في العام 2002، ومنذ أن أنشأها الكنعانيون في حدود العام 2450 قبل الميلاد، وسموها (عين جانيم) ومعناها عين الجنائن، وهي راوية للتاريخ وراوية للحكاية، وقد ارتبط اسم المدينة بمرج بن عامر، وهو أخصب بقاع فلسطين، وحور الرومان اسمها إلى (جينين)، ليصبح اسمها في عهد الفتوحات الإسلامية (جنين)، حسب ما تروي المصادر التاريخية، كما أن الإنسان الأول الذي عثر على آثاره في جبل الكرمل مر من جنين، وفيما بعد شكلت حلقة الوصل التجارية بين مدن بيسان ومجدّو ودوثان، وقد ورد اسمها في الوثائق المصرية القديمة والبابلية والآشورية، وقد تعرضت عبر تاريخها إلى غزوات كثيرة، وبحكم أنها منطقة سهلية غير محصنة، فقد أنشئت مدينة (بلعام) في مدخلها الجنوبي وتسمى (بلعمة) حالياً، لتكون حصن الدفاع الأول عنها.
أُتيح لي في أول زيارة للوطن بعد غياب قسري استمر ثلاثون عاماً أن أزور جنين زيارات خاطفة في أول عودتي، وبعد ذلك حرمت من مغادرة رام الله سنوات طويلة قاربت أحد عشر عاماً، وبقي حلم زيارتها يسكن قلبي والروح، حتى وجهت لي الدعوة من المهندسة دينا حمدان مديرة مركز محمود درويش الثقافي لزيارة جنين، فلم أتردد لحظة عن قبول الدعوة، واستأذنتها أن ترتبها بعد إنهاء العديد من الدعوات لزيارة مناطق مختلفة في أنحاء الوطن وخارجه، وحين حان الوقت كنت أشعر بروحي تسابقني للوصول، وعلى رغم أن الطريق كانت مريحة وسائق السيارة العمومية يأخذ راحته بالحركة والسرعة، إلا أني كنت أشعر أن الوقت يمر ببطء، وأن الزمان قد تباطأ وشبه متوقف، وكنت أتلهى طوال الطريق بالنظر إلى جماليات الوطن من النافذة، وتستعيد ذاكرتي زيارتي السابقة قبل سنوات طوال، حتى أطللت على بلدة (سيلة الظهر)، فتذكرت شابة تنتسب للبلدة وتحلم أن تراها ذات يوم يرى الوطن فيه الحرية، فهمست لها من البعيد: سلام على بلدتك.. سلام على روحك.. ذات يوم ستضمك بلدتك بكل حنان. وهذه البلدة ضاربة القدم، واسمها مشتق بحسب بعض الروايات من موقعها الممتد من أعلى سفح الجبل حتى أسفله، وفي رواية أخرى أنه مشتق من بلدة (إكفار سيلا)، وهي إحدى قرى سبسطية في العهد الروماني وقامت سيلة الظهر على موقعها، واللغويون يشتقون اسمها من كلمة (سلا) وهي تعني في اللغات السامية الهدوء والسكينة، وتشتهر البلدة بموقعها الاستراتيجي والمهم، إضافة إلى أنها تضم مقبرة دفن فيها ما يزيد عن أربعين شهيداً من شهداء ثورة 1936، إضافة إلى مقام يقال إنه لنبي اسمه (سيلان)، وذكر في رحلات النابلسي، ولكن لا أحد يعرف عنه شيئاً، إضافة إلى العديد من المزارات والخِرب، وقد خاطبها الشاعر: عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى):
«وقفت أناجي سيلة الظهر باكيا
وأذللت دمعي بعدما كان عاصيا»
فشعرت بقلبي قد ازدادت خفقاته، وأحسست بعبق جنين قد بدأ يملأ صدري، وحين وصلت إلى مقبرة شهداء الجيش العراقي الذين استشهدوا دفاعاً عن فلسطين في محاولة لإنقاذها من الاحتلال بوساطة جيش الإنقاذ في العام 1948؛ استعادت ذاكرتي أبياتاً من الشعر للشاعر الفلسطيني أحمد رشاد العتيلي التي يقول فيها:
«نفل القول أن نعيد المقالا
لن يكون الرجال إلا رجالا!»
يظمأ الحرُّ أو يموت كريماً
قدر للكريم أن يتعالى»
كما استعادت ذاكرتي فترة إقامتي في بغداد للدراسة، وبعدها في زيارات متعددة، وتذكرت كل الحب والتضحيات من أبناء العراق لفلسطين وشعبها، وقرأت الفاتحة وترحمت على الشهداء، مقرراً العودة لزيارة مثوى الخالدين في زيارة خاصة للمرة الثانية في حياتي.
ما أن وصلت قبالة مركز محمود درويش حتى طلبت من السائق التوقف لأنزل من السيارة، ويظهر أن حجم الشوق كان أكبر من الانتباه، فتعرقلت وأنا أنزل من السيارة لأقع على الأرض، والحمد لله أنني لم أُصب بأية إصابة، فقد وقعت حقيبتي تحتي فلم أصب إلا برضة بسيطة، لأنهض وأتجه إلى المركز، وألتقي بمضيفتي الرائعة دينا حمدان، والتي استقبلتني على بوابة المركز لنصعد ثلاثة أدوار على الدرج، فعلى رغم تصميم المبنى الحديث، وعلى رغم وجود بئر للمصعد فيه، إلا أنه لا يوجد مصعد، على رغم أن المبنى قام على تمويل كامل من الإيطاليين، فأثار هذا بذهني سؤال: هل صرف المبلغ بالكامل على المبنى، أم أن حصة المصعد منه قد تبخرت بشكل مجهول، وقد يكون معلوماً؟
في داخل المركز التقيت مجموعة طيبة ورائعة سلموا عليّ واستقبلوني بكل ما تحمله أرواحهم من طيبة وجمال، فكان منهم الجميل الشاب كفاح أبوسرور ومهندسة أخرى والعديد من العاملين في المركز، فجلسنا وتحاورنا، وبعد احتساء القهوة والحديث عن برنامج اللقاء الأدبي لي مع أهالي جنين في قاعة مؤسسة الكمنجاتي، تحركنا لنبدأ الجولة التي كنت أشتاق إليها وأحلم بها، فقادت الجولة دينا حمدان، ورافقنا الجميل كفاح أبو سرور كل الجولات بدماثة خلقة وخفة دمه، فبدأنا الجولة بعد غداء أصرت عليه المهندسة دينا حمدان بكرمها وحسن ضيافتها، فكانت بداية التجوال في قلب المدينة القديمة، حيث عبق التاريخ والحكايات التي ترويها الحجارة والأزقة والدروب، عن قصص الأجداد والجدات، وعن حوريات بني كنعان عبر التاريخ، كيف نقشوا يداً بيد الصخر، وكيف صنعوا تاريخاً علينا نقف أمامه بإجلال، فكانت البداية من حارة (السيباط)، ويقال إن معنى الكلمة هو البناية التي يمر من تحتها الهواء، ويقال أيضاً إنها تعني الخيول، والسيباط هي مدخل البلدة القديمة، وفيها سوق السيباط وهو سوق أثري تم بناؤه أثناء الحقبة العثمانية في فلسطين، ويحتوي على مجموعة دكاكين ومحلات لبيع المواد الغذائية المختلفة والمنتجات الزراعية مثل الحبوب والزعتر البلدي والجبنة والألبان بمشتقاتها والعطارة، إضافة إلى المواد التراثية الفلسطينية، مثل الأدوات الزراعية القديمة، والمصنوعات الفخارية والنحاسية، والملابس والمطرزات الفلسطينية، يقع مدخل السوق تحت مقر مكتبة جنين، التي كانت في السابق مقراً للبلدية، وأجرت بلدية جنين عملية ترميم واسعة لهذا السوق بتمويل ألماني.
صباح جنيني حار صباح الأربعاء.. صحوت من نومي مبكراً، وجلت وسط المدينة التي بدأت تنفض النوم عن عينيها بهدوء، واحتسيت فنجان قهوة على مقهى في حي بمدخل السوق القديمة، ثم عدت إلى بيت الضيافة، فقد تمت استضافتي في بيت ضيافة جميل يتبع البلدية في قلب الحي التاريخي، بيت جميل ويوفر إمكانات الراحة والتواصل والكتابة، ووجوده في قلب المدينة القديم يتناسب مع روحي والهدف من زيارتي، وهذا يجعلني أوجه بطاقة شكر ومحبة للشاب اللطيف ناصر غزال في العلاقات العامة في البلدية على ترحيبه وتوفير هذا الضيافة الجميلة والمريحة . جلست أنظر من النافذة قبل أن أبدأ برنامج اليوم، وشعرت بروح طيفي ترافقني وتحتسي معي القهوة ونستمع معاً لشدو فيروز، وأشعر بكل أبناء الوطن في الغربة والمنافي والشتات يرددون مع فيروز:
«ردني إلى بلادي مع نسائم غوادي
مع شعاعة تغاوت عند شاطئ ووادي
مرة وعدت تأخذني قد ذبلت من بعادي
وارمي بي على ضفاف من طفولة غدادي
نهرها ككف من أحببت خير الوصادي
لم تزل على وفاء ما سوى الوفاء زادي
حبني هنا حب الحب مالئاً فؤادي
شلح زنبق أنا أكسرني على ثرى بلادي
العدد 3166 - الأحد 08 مايو 2011م الموافق 05 جمادى الآخرة 1432هـ
رائع استاذ زياد