العدد 3165 - السبت 07 مايو 2011م الموافق 04 جمادى الآخرة 1432هـ

صوتٌ من البحرين

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كل شعراء المعلقات من الجزيرة العربية والعراق، من كبار القوم والسن، إلا طرفة بن العبد، الذي وُلد في قرية المالكية من جزر البحرين، فقد عاش حياة قصيرة، والتحق بعبقريته بقافلة شعراء المعلقات.

ولد طَرَفَة العام 543 قبل الميلاد، في بني قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل، في أسرةٍ من الشعراء (أبوه وجده وعمّه المرقّش، وخاله المتلمّس العبدي). مات أبوه وهو طفلٌ فكفله أعمامه، إلا أنهم أساءوا معاملته، وحرموه من نصيبه من الإرث وهضموا حقوق أمه، فنشأ وهو ينفر من هذه البيئة المليئة بالشر. البؤس الذي عاشه في بداية طفولته جعله ينكفئ على ذاته، يتأمل الحياة وتقلباتها، وهي التي أنطقته بذلك البيت السائر الشهير:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً

على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ

الطفل الذي عاش حياةً مهلهلةً بدأ حياته العملية راعياً لإبل أخيه، ودفعته المعاناة إلى التعويض بالانغماس في اللهو والشرب، ما تسبب في إهمال الإبل (ثروة ذلك الزمان)، فوجد نفسه منبوذاً من أبناء القبيلة، يتحاشونه كما يتحاشون البعير المعبّد الأجرب. وهكذا انغمس أكثر في حياة اللهو والتعاسة، ضارباً في أنحاء جزيرة العرب، حتى انتهى تطوافه إلى العراق، حيث حلّ على ملك الحيرة عمرو بن هند. وبعد فترةٍ يغضب عليه ويبعث معه برسالةٍ مختومةٍ إلى عامله على البحرين وعمان. بعض الروايات أرجعت السبب إلى أنه مشى أمامه بمشيةٍ فيها اعتدادٌ بالنفس، وبعضها أرجعه لتباهيه بفروسيته، ورواية ثالثة إلى التشبيب بشقيقته.

في طريق العودة مع خاله المتلمّس (جرير بن عبدالمسيح)، شكّ الأخير بفحوى الرسالة فعرضها على شابٍ يعرف القراءة، فحذّره من القتل، فرمى بها في النهر وغيّر طريقه قاصداً الشام، وحذّر طرفة فلم يستمع للنصح وواصل طريقه إلى البحرين حيث سلم الرسالة المختومة للوالي.

الروايات متضاربة، وإحداها تقول إن الوالي واسمه المكعبر، لما قرأ الرسالة أوعز إلى طرفة بالهرب لوجود نسبٍ بينهما، ولكنه أبى، ما حمله على التنحي عن منصبه وكتب إلى عمرو: «ابعث إلى عملك من تريد فإني غير قاتله». فبعث رجلاً من تغلب بالشام، وجيء بطرفة إليه فقال له: «إني قاتلك، فاختر ميتةً تهواها». فأجابه: «إن كان ولابدّ فاسقني خمراً»... وهكذا كان.

الشاعر لم يعش أكثر من ستة وعشرين عاماً، ولم يخلّف الكثير من النتاج الشعري، فالمعلقة التي خلّدت اسمه واسم بلده وقريته ونسبه في التاريخ، احتلت سدس ديوانه. ولكن هذا الشعر تميّز بالحس الإنساني الرفيع، وتلك الفلسفة العميقة في شئون الموت والحياة، فضلاً عن سلاسة التعبير والتشبيهات الجميلة والحكم البليغة السيارة كما في هذه الأبيات:

فَإِن كنت لا تسطيعُ دفع منيَّتي

فدعني أُبادِرها بما ملَكت يدي

أَرى العيش كنزاً ناقِصاً كلَّ لَيلَةٍ.

وما تنقصِ الأَيامُ والدهر ينفدِ

أَرى الموتَ يَعتامُ الكِرامَ ويصطفي

عقيلةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

البعض وضع طرفة على رأس شعراء اللذة والنساء، وبعضهم اعتبره من الفرسان، وبعض آخر رأى فيه شاباً متمرداً على أعراف القبيلة البالية. وأحد النقاد قال إن انتماءه إلى أكثر الأماكن تحضّراً في الجزيرة العربية (إقليم البحرين)، جعل ذلك الشعر الإنساني أكثر بروزاً لديه مقارنة بغيره من شعراء الجاهلية، وجعله في الصف الأول من شعراء المعلقات.

من أجمل اللوحات الفنية التي خلّفها الشاعر لبيئة البحرين ذلك الزمان، قصة ملاحقته لقبّرةٍ صغيرة في صباه بقريته المالكية، حيث البيئة الزراعية الجميلة، ولكنها أخذت تنقّر الطعم دون أن تقع في الفخ، فقال:

يا لكِ من قبّرةٍ بمَعْمَرِ... خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تنقّري... قد ذهب الصيّاد عنك فابشري!

ذهبت القُبّرة وبقي الصياد. ذهب ذوو القربى العتاة القساة وبقي الصبيّ المتظلّم يقرأ مظلمته ويكرّر حكمته على سمع الزمان... فالكلمة الصادقة لا تموت. ما مات مجتمعٌ تمسّك بقيم التكافل والتراحم والمساواة بين أبنائه. العدل أساس الكون وتنتظم به الحياة، والسلمية هي التي تسحر ملايين القلوب وتحقّق ما تعجز عنه مقابض السيوف. وإذا انطفأ مصباح ديوجين فقد بقيت حكمته تتحدّى العتمة على مرّ الزمان

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3165 - السبت 07 مايو 2011م الموافق 04 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً