دققوا فيما يجري حولنا اليوم. فقد أصبح البعض يتحدث بضرورة ما يُفترَض به أن يكون. إنها دعوات جيّدة في نفسها. لكن ما ليس جيداً فيها هو أن أغلب تلك الدعوات يتمّ العمل ضدها قولاً وعملاً من أصحابها أنفسهم من دون حياء أو خجل. جميع ذلك البعض بات يتحدث اليوم عن ضرورات الابتعاد عن الفتنة المذهبية في حين أن من يقول ذلك هو رائدها في الحقيقة. وجميع ذلك البعض بات يتحدث عن ضرورة الانفتاح على الآخر، في حين أن أكبر مغاليق الدنيا يحملها هو على رقبته وشحمة أذنيه. وجميع ذلك البعض بات يتحدث عن الحكمة والوعي في حين أنه أقرب إلى الجنون والعَتَه منه إليها، وهكذا دواليك حيث لا تنتهي الأمثال.
خلال هذه الأزمة ظهرت لنا نماذج لا تحصى من أؤلئك النفر النقائض. كلّ ما يقولونه هم في حقيقة الأمر واقعون في ضدِّه. والأكثر إيلاماً من كلّ ذلك هو تورّطهم في الفرز والتقسيم. يبدأون بشعار الدين فيقولون في هذا وفي ذاك، وفي هؤلاء وأؤلئك ما تشيب له الوِلدَان. ثم يُعرّجون على السياسة فيجعلون فيها مِلَلاً ونِحَلاً، ونزيهاً وغير نزيه، وحصيفاً وغير حصيف. ثم يختمون الأمر بالأفكار فيُحلُّون لأنفسهم في قول هذا ويُحرمون لها في ذاك، ويتمنَّعون من هؤلاء ويبيحون لأنفسهم من غيرهم وكأنهم أسياد على فضاء العالَم كله.
هنا يكتشف المرء أن الدنيا تبدو ضيقة أكثر أمامه من اللازم. لأن تعليمات هؤلاء المُنظِّرين لم تترك له خيارًا إلاّ وأحرقته بالتعيير والتسفيه والتخوين. فالدين أصبح بالنسبة لهم فرقة. والفرقة أصبحت جماعة. والجماعة تحوَّلت إلى ثلَّة. والثُّلَّة إلى ذات. والسياسة أصبحت عقيدة. والعقيدة إلى حزب. والحزب إلى زعامة. والزعامة إلى ذات. وفي الفكر يتحوّل هذا الأخير من فضاء إلى إطار. والإطار إلى تفسير. والتفسير إلى نرجسيّة. والنرجسية إلى ذات. وفي الأحوال الثلاث نجِد أنفسنا أسرى لذوات جاهِلة، تقسِّم المجتمع على أسس بغيضة وجنونية، ثم تختصره في آحاد لا يُشاركون الناس عقولهم وإنما يُملون عليها كلّ صغيرة وكبيرة.
ما هذا الدين الذي في عقول هؤلاء الذي يُحرِّض الناس على بعضهم ويُخيفهم من بعضهم وينزع أيّة رحمة منه عليهم ليَصْلِي الأخ أخاه بقسوة قروسطية؟! وما هذا الفكر الذي بحوزة هؤلاء الذي يختصر فلسفة الدنيا وفلاسفتها وأدمغة الشرق والغرب ومحيطه حتى ليروا في أنفسهم حقاً في أن يُسَفِّهوا الجميع ويصفوهم بالجهل؟! وما هذه السياسة التي تمنح الناس صكوكاً في الحرمان والغفران وكأنها تعيد تجارب بيوس الخامس؟! إنها المأساة بعينها.
البحرين لا تحتمل مثل هذا النمط من التفكير أبداً. فهذا ما يُنافي تاريخها وفضائها الواسع التي دَرَجَت وانتظمت عليه طيلة السنين المنصرفة. فالتاريخ البحريني الذي هو ظَهْرُ الحاضر ومدماكه كان يعتبر لفظة الوطن أسمى من أيّ اعتبار آخر سواء أكان سياسياً أم دينياً، ولم تكن تربية الناس في هذا الوطن على هذه الشاكلة من التفكير والرؤى التي نراها عند البعض اليوم. بل ما هو مقنع فعلاً هو أن العقل يكون بطيئاً في نسيان ما تعلَّمه في سِنٍّ صغير بحسب تعبير الكاتب الروماني سنيكا الأكبر، وما تعلّمناه في صغرنا لا يُمكن نسيانه في بحر شهر ونحن بالغون راشدون أسوياء، وبالتالي فإن هؤلاء يدعون بدعوات لا تنسجم مع ثقافة الناس ولا مع تاريخهم ولا هويتهم الحقيقية التي نبتت عليها عقولهم ومشاعرهم.
من أقسى الأمور على الشعوب والأمم هو أن تتسلّط عليهم زعامات سياسية ودينية حزبية لا تفقه من أمرها سوى نفث الكلام كيفما اتفق. تقول ما يُفرق الناس، وتعمل بما يزيد من احترابهم. هذا بالضبط ما جربته أمم كثيرة طيلة القرون الأربعة الماضية سواء في الشرق أو الغرب وجعلت من ناسها تتقاتل حتى ملَّت الخصام. ونتمنى نحن اليوم أن نتعظ منها، فالسعيد هو ما اتعظ بغيره
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3164 - الجمعة 06 مايو 2011م الموافق 03 جمادى الآخرة 1432هـ