في هذه الزاوية الدافئة، كان لي شرف الكتابة تسع سنوات، كان حسن استقبال القراء وثقتهم خير زيتٍ للقناديل التي أَضأناها في «الوسط» من أجل الخير العام.
كان صدور «الوسط» يوم الأحد، السابع من سبتمبر/ أيلول 2002، وفيما كنّا نعمل بقسم الترجمة، لرفد الصحيفة بمواد من «الاندبندنت» البريطانية، بحسب اتفاق مسبق، كتبت أول مقال سياسي بخط اليد، وحملته إلى مكتب مدير التحرير، قرأه بسرعة واهتمام، ونهض من مكانه وتوجّه حالاً إلى غرفة الطباعة والصف وهو يقول: «بكرة راح ينزل».
كان مقالاً قصيراً عن «الرئيس بوش وتابعه بلير»، مستوحى من رواية «دان كيشوت» للأسباني الشهير سرفانتس. وكانت الولايات المتحدة تعدُّ العِدّة لغزو العراق، وسط معارضة دولية واسعة، ولم يقف مع بوش الابن إلا البريطاني طوني بلير والاسباني ازنار، ومعارضة فرنسا شيراك وألمانيا شرودر. لاحقاً حدثت انقلابات في المواقف، بسقوط بلير وأزنار، ومجيء ساركوزي وميركل. كان كلّ ذلك يجري تحت شعار «الحرب على الإرهاب»، التي نشهد اليوم أحد فصولها الحاسمة بمقتل زعيم القاعدة، والتي تكشف الروايات الأميركية عن تناقضات وتضليل إعلامي وتهتك أخلاقي كبير فيها.
الكتابة اليومية مرهقة، والكتابة عن الشأن المحلي والخارجي، تفرض عليك المتابعة اليومية للأحداث. والذين يعرفون كواليس الصحافة يعلمون أن الكثيرين يهربون من الكتابة ليوم الجمعة، لأنه يوم إجازة، ولتخفيض عدد النسخ المطبوعة أيضاً.
خصوصية هذا اليوم، تجعلك تفكّر فيه كتحدٍّ طوال الأسبوع، وهكذا تحوَّل إلى ميزة ولم يعد همّاً. فالقارئ يحتاج إلى مادةٍ خفيفةٍ يوم إجازته، وحبّذا لو تكتب باختصار ليقرأها بسرعة فيما هو يتأهب للذهاب إلى الصلاة، أو ينتظر مائدة الطعام في اجتماع العائلة الأسبوعي.
كنت أشعر بأن مقال يوم الجمعة له طعمٌ خاصٌّ، فإذا كان هناك موضوعٌ ديني أو رؤيةٌ أو نصيحةٌ تتعلق بالمؤسسات الخيرية والتطوعية، كنت أدَّخرها لهذا اليوم الذي تنشرح فيه القلوب للسماع. وفي بعض الأحيان أخصّصه للكتابة عن المناسبات والشخصيات التاريخية، التي أجد فيها لذّةً روحيةً وتقرّباً إلى المثل العليا التي نحتاج إليها في هذا العالم المليء بالمكائد والمرتشين واللؤماء.
كتابة مقال الجمعة كانت مدخلاً لي لتناول بعض القضايا السياسية بأسلوبٍ ساخرٍ، في عالمٍ يعمل بسياسة المكاييل المتعددة، حيث يتعطَّل المنطق ويصبح الحوار عقيماً، فيكون كشف المفارقة أبلغ ردٍّ. الكتابة الساخرة من أصعب الفنون، وقليلٌ من يجيدونها في الصحافة العربية، وكثيرون يخلطون بينها وبين الشتائم، وبعض المبتدئين يظنونها عملية استهزاء!
من عمود الجمعة تعلّمت اختيار الحدث والموقف السياسي الذي يحتاج فقط إلى تعليق خفيف فيتحوّل من خبرٍ بسيطٍ إلى رسم البسمات والضحكات. مرةً كنت في سيارةٍ مع بعض الإخوان وسط المنامة القديمة، وفجأةً سمعت أحدهم يقهقه ضاحكاً، ولم يدرْ ببالي أنه يقرأ ما كتبته عن جولةٍ تخيّليةٍ لإحدى العجائز في مآتم المنامة بحثاً عن أسلحة الدَّمار الشامل، فلم تجد غير الملاعق وقدور الطبخ و(القداوة)! يومها تبيّن لي أثر الأسلوب الكوميدي في الرد على العجائز والتنابلة وأدعياء الحكمة والمتملقين.
كتبت مرةً عن «شاورما شارون» بعد دخوله الغيبوبة، ومرةً عن رجلٍ اتصل بالرئيس الفرنسي منتحلاً شخصية الرئيس الكندي؛ وعن «خرافات أجاثا كريستي»، التي دفعتها نرجسيتها وتضخم ذاتها إلى الحلم بأن يعتذر منها الآخرون الذين ينتقدون مواقفها وأفكارها الرجعية.
كتبت قبل خمس سنوات عن البطاقة الالكترونية التي فرضها الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، في إجراء قمعي لمراقبة المصلين يوم الجمعة. وكتبت عن مصر حسني مبارك كثيراً، حيث كانت قوات الأمن تمنع الناس من دخول مراكز الانتخابات للإدلاء بأصواتهم، في واحدةٍ من أغرب الممارسات الديمقراطية الخليعة. وكتبت عن الرئيس اليمني الذي ادعى قبل ست سنوات أنه لن يترشّح للرئاسة مرةً أخرى، وفي اليوم التالي تم الإيعاز لتسيير مظاهرات تطالبه بالبقاء للأبد، فلا يوجد غيره لقيادة البلاد. وكتبت عن القذافي و»نظريته الرابعة»، وفكرته العبقرية عن «اسراطين». كل هذه الأنظمة بان هزالها وأصبحت الآن من الماضي، ولكن حينها كنّا نتلقى انتقاداتٍ واتصالاتٍ غاضبة لاقترابنا من الخطوط الحمراء.
آخر الأخبار، الحكم على وزير الداخلية المصري السابق بالسجن 12 عاماً، بعد أسبوعٍ من تغيير اسم «جائزة مبارك» إلى «جائزة النيل». القذافي يقصف شعبه بالقنابل العنقودية. وقاضي التحقيق التونسي أحال أمس ملفات بن علي وزوجته ليلى طرابلسي إلى المحكمة بتهمة التآمر على الأمن الداخلي للدولة. والمعارضة اليمنية تطالب دول الخليج بالضغط على صالح للتنحي، بينما وصَفَه المحلل السياسي السعودي سامي العثمان بالمجنون!
كما ترون... الكتابة ليوم الجمعة المبارك التي يهرب منها الكثيرون، كانت تجربة غنيةً مثمرةً، أوحت لي بالكثير من الأفكار والرؤى والكتابات. وفي الجمعة الأخيرة حيث أطوي القلم ليستريح بعد هذه الرحلة الجبلية المرهقة للقلب، أتمنّى لهذا الوطن الشفاء والصفاء والمحبة والخير العميم. ورحم الله الشريف الرضي حيث قال: قد آن للقلبِ الذي هدّه... طولُ معاناة الأسى أن يُراح.
جمعةٌ مباركةٌ أتمناها دائماً للجميع
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3163 - الخميس 05 مايو 2011م الموافق 02 جمادى الآخرة 1432هـ