«إن الشمولية هي ظاهرة جديدة جاءت لتعوض الإمبريالية بوصفها مشكلاً سياسياً جوهرياً للعصر»وإذا كانت الإمبريالية تتصف بالهمجية والتعطش إلى الغزو ومرحلة متقدمة من الرأسمالية والنيوكلونيالية فإن الشمولية هي ظاهرة سياسية استحدثتها إيديولوجيا داروينية وتوصف بالإرهاب والرغبة في السلطة.
الغريب هو أن الشمولية تشجع على الانتفاع المادي والسلوك الأناني وحب الثروة والمال والتمتع بمباهج الحياة عبر الاستهلاك والإشهار والدعاية وتربط بين ملكية وسائل الإنتاج والتحكم في القرار السياسي.
والحق أن ما وقع المراهنة عليه من طرف السياسات الشمولية في التجارب الفاشلة التي شهدها العالم في القرن الماضي ليس فقط «فقدان القدرة على الفعل سياسياً والذي هو الشرط الجوهري للطغيان ولا الهيمنة المتنامية لللامعنى وتحطيم الحس المشترك... وإنما أيضاً ضياع البحث عن المعنى والحاجة للفهم».
لقد قاد الفكر الشمولي الناس إلى العبثية والشعور بالغثيان والسبب هو التلاعب بالتفكير المنطقي وفقدان أهمية الانتباه إلى الواقع والانغماس في تلبية التفاهات والابتعاد عن جواهر الأشياء والمواقف الجدية. كما تم التقليل من أهمية التحولات المجتمعية والاستخفاف بقدرة الطبقة الصاعدة من الشباب على التأثير في الشأن العام ووقع الصمت تجاه إمكان توظيف الثورة الرقمية في إحداث تغيير جذري في نمط الحياة.
إن الفهم هو الوجه المقابل للفعل وإن رفض قبول الواقع كما هو موروث عن الماضي ناتج عن فهم دقيق له وتصميم على تغييره والبحث عن واقع أحسن يتيح للناس الاندماج في الحياة المدنية وحكم أنفسهم بأنفسهم.
إن الفهم الحقيقي لا يترك أي التباس وأي سوء فهم ويتفادى الحلقات المفرقة والدوائر المغلقة والمصادرة على المطلوب وتحصيل الحاصل ويتخذ مسافة نقدية من الواقع المبتذل ويعوض إشكالية البحث عن الطبائع والماهيات بالحوار مع العالم والتخيل والافتراض والحلم من أجل إنتاج المعنى واستشراف الآتي.
لكن ألا تصبح مهمة الفهم دون أمل وممتنعة إذا كان صحيحاً أن الشمولية تحاصر الملكات البشرية وتفسد مقولات الفكر وخصائص الحكم؟ إذ كيف يمكن للمرء أن يقيس ويميز دون معيار ودون ذوق سليم؟ ألا يمكن للفهم والحكم أن يكونا متشابكين مثل انضواء بعد جزئي تحت قاعدة عامة؟
«الكثير من الناس يؤكدون أنهم لا يقدرون على محاربة الشمولية دون أن يفهموها. وبالنظر إلى البنية المعقد للظاهرة الشمولية خلصوا إلى أن البحث المتأسس - أي المجهودات الجامعة للعلوم التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية - قادر وحده على تكوين فهم معين».
إن تركيز الأنظمة الشمولية بالنظر إلى بناها وتقنياتها غير المسبوقة يمثل الحدث البارز في عصرنا وإن فهم هذه الظاهرة يتطلب التعرف على ماهيتها وخفاياها وبلوغ جوهر العصر الذي نعيش فيه وخصائصه.
إن محاربة الشمولية يتطلب فهم التناقض الجذري بينها ومطلب الحرية وفهم الاختلاف مع الأشكال الأخرى من الطغيان والاستبداد واعتداءاتها المتكررة على هذا المطلب والانتباه إلى أن مجرد الاحتجاجات على هذه الاعتداءات لا تكفي من الناحية الأخلاقية لكي يقع احترام الحرية وضمانها.
إن وجود أنظمة شمولية في العالم هو سبب مصادرة الكثير من الحقوق والقيم وخاصة العدالة والمساواة ومداهمة للبنية الأخلاقية للمجتمعات والثقافات وزرع لرؤية جديدة للكون تقوم على الأنانية والعنف.
إن المطلوب هو تحقيق التوازن بين القوى المتنافسة داخل المجتمع من أجل استبعاد فرضية الصراع وتحقيق التوازن بين القوى العظمى على مستوى العلاقات الدولية من أجل تجنب نشوب الحروب.
إعطاء أولية مطلقة إلى الحرية والعدالة في توجيه الرأي العام والاحتكام إلى الحق والقانون من أجل رسم حدود للقوة وجعل المرجعية الأخلاقية هي مصدر المشروعية التي تضبط الأداء السياسي،»إن الحرية هي ماهية الوضع البشري وإن العدالة هي ماهية الوضع الاجتماعي للإنسان أو بعبارة أخرى أن الحرية هي ماهية الفرد وأن العدالة هي ماهية حياة الناس في الجماعة وهذا المبدآن لا يمكنهما أن يختفيا من سطح الكوكب إلا عند الاختفاء الفيزيائي للنوع البشري».
إن الصراع ضد الشمولية لا يتوقف عند إصدار البيانات والخطابة الشعرية وترديد شعارات الحرية والعدالة وإنما يقتضي تجميع الناس وانتزاع الخوف من الصدور والإقبال على الوجود بجرأة وممارسة الضغط المتواصل وبعث الهيئات الحقوقية المعارضة وتشكيل رأي عام مضاد متعدد ومختلف جذرياً عن الثقافة السائدة ويحمل في داخله ابتداءات ممكنة على جميع أصعدة الحياة.
«إن الإنسان ليس له القدرة على الابتداء بل هو نفسه هذا الابتداء» كما أنه مصدر ظهور كل شيء جديد على مسرح التاريخ وإذا بلغنا نهاية نظام سياسي مترهل واستنفذ كل إمكاناته وبات عبئاً ثقيلاً على الأفراد فإنه من الطبيعي أن يشرع الناس في تشييد نظاماً آخر يقوم على ضمان واحترام الحرية والعدالة.
المطلوب أيضاً هو التوافق على المشترك والإجماع على ضرورة انبثاق السلطة من إرادة العيش المشترك وليس من التمييز الهرمي بين الحاكمين والمحكومين وذلك بالتمييز بين المجال العالم والمجال الخاص، لكن إذا كان المجال الخاص يرتبط بالملكية والفردانية والحقوق الشخصية فإن المجال العام «يدل على كل ما يظهر إلى العموم ويمكن أن يرى ويسمع من الكل ويوظف في أكبر نطاق ممكن من الشعبية».
هكذا يرتبط ميلاد كائن بشري جديد بظهور ابتداء جديد في العالم والفعل السياسي الخالي من الكذب والعنف والقادر على التمييز بين الديني والسياسي والذي ينهل من بنية أخلاقية متجددة هو خير تعبير عنه.
غير أن «الديمقراطية المحكومة بقرارات الغالبية وحيث القانون لا يعادل الكفة هي أيضاً استبدادية أكثر منها حكم الفرد المطلق». فكيف يتم التوفيق بين حكم الغالبية وحقوق الأقلية؟ وألا يجب التفريق بين الإنسان بما هو عضو في نظام عمومي أي مواطن والإنسان بما هو فرد حر؟ وماذا يترتب عن التمييز بين المجال العام والمجال الخاص وبين الحقل السياسي والحقل الاجتماعي؟
إقرأ أيضا لـ "زهير الخويلدي"العدد 3163 - الخميس 05 مايو 2011م الموافق 02 جمادى الآخرة 1432هـ