في موسم الغوص وفي مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1925 كان «سنبوك» النوخذة بن بدر يبندر في هير «بولثامة» القريب من نجوه العماري شمال شرق البحرين. ويتميز هذا الهير بكثرة اللؤلؤ وبعمقه الذي يصل إلى 8 أو 9 «أبواع» (قياس عمق البحر)، وأمهر الغاصة لا يستطيع المكوث في القاع أكثر من دقيقة وربع الدقيقة تقريباً، ومن تقاليد الغوص قبل تقرير النوخذة لبدء عملية الغوص، أن يقوم أحد الغاصة المتمرس في معرفة قيعان الهيرات، كجمعة بن خميس الذي اشتهر بحكايته وبالمثل الشعبي حين أرادوا ممازحته واختباره، بعد أن صار كفيفاً لكن حاستي الشم والفطنة ظلتا لديه حاضرتين جعلتاه يطلق المثل الشعبي «الهير هير شتيه لكن الطين طين ريه»، ولهذا المثل حكاية.
النوخذة بن بدر أمر الغيص ارشيد النجدي أن يقيس عمق البحر بالأداة المصنوعة من الرصاص (البلد)، رمى ارشيد بلده في البحر حتى وصل القاع، وقام بسحبه وهو يتمتم بعدد «الأبواع» (جمع باع) والباع عبارة عن مترين، التفت إلى النوخذة وقال باقتضاب: ثمانية (أي ثمانية أبواع)، وقرب البلد من أنفه وهو يفركه، وقام بشمه، وعَبَسَ بوجهه، وشاهده النوخذة وهو يعبس فسأله: ما الأمر؟ (ارشيد) لم يرد عليه واكتفى بالصمت، زجره بقوة وقال له: أنا أسألك لِمَ لا ترد؟ ولاذ بالصمت ثانية وتمتم بكلمات غير مسموعة، زجره النوخذة مرة أخرى، وقال له: انزل إلى القاع، لبس الغواص «لفطام» ووضع الحجر في رجله وأمسك بحبل السيب، وألقى بنفسه في البحر، بعد ثوان أعطى إشارة السحب إلى «السيب» المكلف بسحب الغواص، فقام بسحبه، وعلى سطح «السنبوك» كان النوخذة ينتظر، سأله: ماذا؟ رد الغيص (الكوع) القاع مايه «مدلخ» أي تصعب الرؤية فيه، عبس النوخذة بوجهه ونهره وقال له «سدر» أي اذهب إلى سطح مقدمة السفينة، وعادة ما يكون هذا المكان لعقاب قادم بالصلب في السارية أو حرمانه من الوجبات الشحيحة.
والتفت النوخذة إلى غيص ثانٍ وطلب منه الغوص إلى الأعماق، ففعل الشيء نفسه وعاد إلى السطح وقال: «ظلام، الكوع ظلام»، فزجره هو الآخر وأرسله إلى «فنه سدر» وطلب من الثالث أن يغوص، ففعل وعاد بأسرع من رفاقه، وقال: «عمي البحر خرمس»، أي شديد الظلام، وبينما كان النوخذة يوبخ الغاصة الثلاثة ويعد لهم أداة العقاب ويكرر عليهم عبارة كذابين وهم يحلفون له بأغلظ الأيمان وبالقرآن والنبي محمد أن هذا ما شاهدوه فعلاً. كان الوقت يقترب من غروب الشمس، وفجأة تتلبد الغيوم في سرعة ليس لها مثيل ويقعقع الرعد ويضيء البرق لثوان، وإذا بالمطر ينهمر فجأة والريح تعوي، والصواري والأشرعة والفرامن تهوي متكسرة على رؤوس البحارة أو في البحر، ولا تسمع إلا عويلاً وصياحاً واستغاثات مثل «آيه على اعيالي»، «حسرة على العيال».
وعند مقدمة السنبوك تسمع حواراً صاخباً بين أحد البحارة والنوخذة، البحار يسأل أين «الجدوم» (الفأس)، ويردد بصوت عال: سأقطعه، والنوخذة يرد عليه: لا لا تقطعه، البحار لم يلتفت إليه فكانت اللحظة لحظة قرار، فانفلت البحار إلى صدر السفينة وهوى بالجدوم على حبل المرساة الأمامي «لخراب» فانفلت السنبوك جنوباً في عكس اتجاه الريح وقطع حبل المرساة الثاني بشدة اندفاعه، وصار السنبوك في اللجة، تلعب به الأمواج لعب «الكبه».
كان عدد بحارة سنبوك (بوبدر) حين كانوا في مغاص بولثامة نحو 50 بحاراً، وهو العدد الذي تستوعبه سفينة غوص السنبوك، وهي أكبر من البوم، حين رست على الفشت واستعاد البحارة شبه وعيهم، وهم متمسكون بالسنبوك الخشبي كان عددهم يفوق المئة، فقد سحبوا معهم بالحبال كل من تمكن من الإمساك بالحبال التي ألقوها إليهم، واستمرت تلك العاصفة (الدالوب) قرابة نصف ساعة، لكنها كانت دهراً، فقد ضاع الوقت في تلك اللجة في ذاك الليل البهيم.
أمسكت مغلته المحار، في الفجر مرتعشاً
لتكتمل القلادة في عنق جارية
تنام على وسادة
ويظل صدرك عارياً
يا أنت يا عبق الزهور
ويظل صدرك عارياً
يا أنت يا عبق الزهور
يقول عيسى الحمر، الذي بعد أن قرأ المسودة الأولى لهذا المقال زودني بما جهلت، وكان مصدره هو رواية والده الذي كان من أشهر النهامة. والمصدر الآخر الذي هو من أهم مصادر سنة الطبعة كتاب ألفه سعد بن عبدالعزيز السيف (1426 - 2005) ويعد أهم مرجع عن سنة الطبعة (1925)، هذا الكاتب الصامت دوماً والمبدع دوماً كـ «ليل البنادر» ومسلسل «دروب»، يقول:
«في سنة الطبعة الحزينة فقدت البحرين المئات بل الألوف من رجالات وشباب البحرين وجلهم من البحارة البسطاء والغاصة والسيوب، وترملت النسوة وتيتم الصبية والبنات وبكت الزوجات، والأمهات الأحبة وفلذات الأكباد، رحلوا في ساعة زمن ابتلعهم البحر نتيجة الجهل والإهمال، رحلوا بسبب الجشع والقسوة والطغيان الذي كان يدير نفوس ملاك السفن وتجار اللؤلؤ، ولم يعرف في ذلك الزمن من وسائل الإنقاذ والنجاة إلا ما منحهم البحر من تجاربه، والسباحة أولها وآخرها».
فهل يكرر الجشع لعبته بعد مرور ثمانين عاماً على سنة الطبعة (1925) السوداء؟ ألم يحن الوقت لردع غول الاستغلال البشع وشراهة الربح؟ ألم يحن الوقت لتقليم أجنحة الدبابير التي سمّمت حياتنا لعقود طويلة، ومازالت مستمرة في تدمير أحلامنا بوطن سعيد يشيع فيه الفرح والعدالة والحب؟ هل نطلب الكثير؟ لماذا يحيلون ليالينا البهيجة إلى أحزان؟ ولماذا يستبدلون الابتسامة المتفائلة إلى غول يقض المضجع، وكنا ندرك من زمان، ونرجو أن ينتبه ويدرك معنا الآخرون، أن أحلام هذا الوطن لن تكتب لها الحياة، ولن تغرد العصافير على شرفات دورنا، وتصدح الأغاني في ليالينا وترقص البسمة على شفاه أطفالنا، لن يتحقق شيء من ذلك ما لم نحمل أدوات البناء بيد واحدة صادقة العزم، نقطع دابر الفساد ونسحق رأس المحسوبيات المقيتة التي أحالت حياتنا إلى يباب ومسحت عبق كل وردة زرعناها على طريق الأمل؟
نتمنى أن تكون «ليلة الدانة السوداء»، هي آخر الليالي الحزينة، وأن تكون أرواح الضحايا ودموع أحبتهم المكلومين شعلة أيامنا القادمة، إذا استيقظ النائمون، الغارقون في عسل الفساد والرشوة والمحسوبية وأمنوا العقاب.
هل ستكون «طبعة الدانة» درساً بليغاً تقف عنده الجهات الرسمية لتسمع عن إجراءات صارمة بمستوى فداحة هذا الحدث؟
وأخيراً... البحر أجمل ما يكون
لولا شعوري بالضياع
لولا هروبي من مدينة الظمأ
وخوفي أن أموت
عريان، في الأعماق أو في كبد حوت
إني أحاذر أن أموت
إقرأ أيضا لـ "عبدالله مطيويع"العدد 1332 - السبت 29 أبريل 2006م الموافق 30 ربيع الاول 1427هـ