يظهر بين الفينة والأخرى على سطح التداول العربي مفردات ومفاهيم، قادمة من بلاد التقدم، تكون عادة قد أشبعت عندهم تطبيقا، بعد أن تكون قد استقامت تطبيعا، وزادت رسوخا عبر الممارسة لتغدو قيما مجتمعية جامعة، لتستكين عندنا نحن مفردات ومفاهيم مبهمة جاذبة لنقاشات تخلق من حولها لغطا ملتبسا تقتضي الحاجة إلى بعث مزيد ومزيد من النقاشات... ليستمر الحال على هذا المنوال، لكن، علام تستقر نتائج تلك النقاشات والمداولات... لا أحد يدري، كله مرهون بمقتضى فتوى تأتي أو لا تأتي. والملاحظ في السنوات الأخيرة، أن هناك مجموعة من المفردات القيمية والمفاهيم ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي فرضت نفسها في سياق التطور المجتمعي مثل المواطنة، حقوق الإنسان، الانتماء، الولاء، الطائفية، المساواة... وغيرها. وحقيقة، فإن ذلك ينبئ بيقظة ويشير إلى رغبة ترنو صوب نهضة مستحقة، بالنظر إلى المتراكم الحضاري الذي تسلق أسوار معطياته الكثير من الشعوب، إلا شعوب المنشأ، مسجلين بذلك أضعف مثال وأسوأ قدوة.
في الضائع من عمر الشعوب العربية في الزمن الماضي، وفي ظل سيادة الدولة القومية الاستبدادية، كان هناك معنى واحد للولاء، الذي تقول عنه جوزايا لويس في مقال لها بعنوان «فلسفة الولاء»: «حقيقة أن الولاء كلمة قديمة ولها قيمتها الخاصة والفكرة العامة عن الولاء أسبق زمنيا من الكلمة نفسها بل وأكثر قيمة، ولكنها تظل دائما فكرة مشوشة غير واضحة في عقول الناس بسبب علاقتها بمسائل أخلاقية واجتماعية، فكل فرد سمع كلمة الولاء ويمدحها الكثير من الناس ولكن عددا قليلا جدا من الناس يفهم معناها الحقيقي ويدركها بوصفها محور كل الفضائل والواجب الرئيسي بين كل الواجبات».
وتأسيسا نظريا على ما وددنا مناقشته في هذا المقال، وعلى خلفية ما أثاره التصريح الموجع الذي أدلى به الرئيس المصري حسني مبارك، الذي وجدناه، وفخامته بالتأكيد لا يقصد، يصب في خانة تأجيج أوار التطاحن وتعميق الشقاق الذي هو هدف الإرهابيين والبعثيين والمذهبيين والطائفيين، هذا الولاء مستل من فلسفة «من لم يكن معنا فهو ضدنا»، وبالتالي فان المعنى المضاد لكلمة الولاء يفترض، وجوبا، أن يكون معارضة أو معاداة، وبهذه الخلاصة اللامنطقية فإن الشعوب دفعت ثمنا غاليا لسياسة انتهجت المطلق في كل شيء. بيد أن السياق العام الذي فيه الولاء يتحرك، بدلالات وأبعاد هي بالتالي متغيرة ومتحركة، والولاء لا يتخذ صفة الثبات إلا إذا تعلق الأمر بالأوطان، فعلى سبيل المثال نقول إن الولاء للحزب لا يتصف بالثبات فبإمكان مواطن ما أن ينتقل من حزب إلى حزب آخر وجده، بعد غربلة فكرية، أكثر تعبيرا عن تطلعاته، آخذا معه ولاءه الأكبر للوطن، ذلك أن الولاءات الحزبية على ما تتصف به من ضيق أفق هي، في اعتقادي، ولاءات صغيرة تتضح ضرورتها من أهدافها الوطنية التي ترفد بتدفقها الولاء المطلق للأوطان، وأن من يتأمل كلمة الولاء يجدها تشي بشيء من قدسية ترتفع عن أن تكون موجهة لأشخاص، كما أن الأشخاص تنأى بنفسها عن أن تتخذ صفة القداسة لذاتها إلا إذا كانت مصابة بتضخم حاد في ذاتها، وتقع، كلمة الولاء، في صميم الواجبات المترتبة على مواطنة حقيقية. وذلك ما يفضي بنا، بداهة، إلى معنى من المعاني المؤدية إلى الإقرار بأن الولاء حال شعورية مكتسبة تتجلى أكثر كلما حصل المواطن على حقوقه، وتجد لها متسعا للانتشار في فضاء الوطن من خلال مفردات أقل من ولاء مثل تأييد ومناصرة وهذا ما يتصل بالحكومات المتعاقبة التي تحكم، فكلما عملت الحكومات على توسيع الحريات الديمقراطية، وأضافت مكتسبات حياتية جديدة، كلما كسبت تأييدا يعزز من حال الشعور بالولاء للوطن ينعكس إيجابا على الكل الوطني. وما يعزز وجهة النظر هذه، باعتقادنا، هو آلية تداول السلطة في أنظمة الحكم الديمقراطية، فولاء المواطن لوطنه لا يتأثر بوصول أو إخفاق هذا الحزب أو ذاك إلى الحكم، إنما يدفع باتجاه التجديد لإثبات الولاء الحقيقي للوطن من خلال تطوير آليات العمل الوطني التي تضع المصلحة الوطنية، الكلية، فوق كل اعتبار.
أريد أن أقول وأنا استحضر شحنة الألم التي انطوى عليه تصريح الرئيس حسني مبارك في حق إخوة لنا في الوطن الواحد، وأنا هنا لست أدعي الدفاع عن شيعتنا، ولكني أذكر من سار في ركب جوقة المطبلين بقصور ولاء الشيعة الوطني، على الأقل في البحرين، بيوم التصويت على الميثاق كمحطة تاريخية عكست ولاء وطنيا وتأييدا كاسحا للمشروع الإصلاحي الوطني لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، والذي، مع الأسف، وجد، أقصد تصريح الرئيس مبارك، من يفلسف له ويدافع عنه ممن يدفعون باتجاه التشاحن والتباغض الطائفي من المذهبين، ولكن كل بحسب تشغيله لمكنة إعلامه وتفعيله لمنابر خطابته، أقول إن الولاء لا يولد مع الإنسان وإنما يكتسبه من مجتمعه، وبالتالي فانه يخضع لعملية التعلم، وفي هذا الإطار نشير إلى الدور المتعاظم والمطلوب للمؤسسات التربوية في أن تنهض بدورها التربوي الوطني بمعزل عن الإملاءات الطائفية. إذ إن الولاء حال شعورية مكتسبة فانه يغدو سببا وليس نتيجة، إذ لا يمكن، كما يقول أحدهم «إنتاج الولاء وتوظيفه في مجالات الحياة المتنوعة إذا لم يكن ولاء حقيقيا وصادقا، وهي شروط لن تتوافر إذا فشلت الدولة بتمثيل مواطنيها بصدق وأمانة والتزام كامل بحقوقهم وحرياتهم وكراماتهم»
العدد 1331 - الجمعة 28 أبريل 2006م الموافق 29 ربيع الاول 1427هـ