العدد 1330 - الخميس 27 أبريل 2006م الموافق 28 ربيع الاول 1427هـ

هيغل وظهور عصر العمالقة في الفترة البونابرتية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عندما ولد جورج وليام فريدرك هيغل في شتوتغارت في أغسطس / آب 1770 (1184هـ) كانت أوروبا تمر في مرحلة انتقالية دقيقة وعلى عتبة تحولات تاريخية كبرى. من جهة شهدت القارة حالات من الاضطراب الديني ثم استقرت. ومن جهة أخرى كانت القارة على موعد مختلف من الاضطرابات الاجتماعية التي أدت إلى استقرار آخر وثبات في شخصيتها المعاصرة ودورها العالمي.

ولد هيغل في وقت كانت أوروبا قد انخلعت، أو تخلصت من وضع سابق، وبدأت تتحول إلى وضع جديد فرض عليها البحث عن صيغة جديدة لشخصيتها التاريخية ودورها العالمي، الأمر الذي فرض على «فلاسفتها» طرح كل المسائل على طاولة النقاش والبحث في كل المشكلات وإعادة صوغ أجوبة عصرية لأسئلة قديمة.

قبل مولد هيغل كانت أوروبا انتهت من تنفيذ ثلاث خطوات خطيرة عبرت منها إلى مستوى مختلف عن السابق، وهي: أولاً، انتهاء عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي تتوجت باكتشاف القارة الجديدة (أميركا) والدوران حول إفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح والوصول إلى آسيا (الهند والصين) من دون الاضطرار إلى المرور في العالم الإسلامي. وساهمت الاكتشافات الجغرافية في اعطاء أوروبا افضلية «كونية» في الصراع مع السلطنة العثمانية؛ فهي من جانب تخلصت من تحكم المسلمين في طرق التجارة القديمة وهي من جانب آخر ساعدتها المواصلات الجديدة على الاستقلال الاقتصادي وإلغاء الشراكة التجارية مع العالم الإسلامي. ولعب اكتشاف أميركا الدور المميز في توفير فرصة لأوروبا في حل أزمتها الاقتصادية ومشكلة الزيادة السكانية عبر فتح ممرات تجارية اطلسية همشت إلى حد كبير دور البحر المتوسط التاريخي.

ثانياً، انتهاء الحروب الدينية التي اندلعت في مطلع القرن السادس عشر وامتدت نحو 130 سنة (1513 - 1643) وهي الحروب التي وزعت أوروبا جغرافياً إلى ثلاث كتل رئيسية: أوروبا الشرقية وجنوب شرقها (ارثوذكس)، أوروبا الجنوبية وغرب جنوبها (كاثوليك)، وأوروبا الشمالية وشمال غربها (بروتستانت). وتأسس الانقسام الديني المذهبي المذكور على قواعد سياسية - ثقافية وفي الآن نفسه على انقسام الكنيسة إلى قديمة (كاثوليكية غربية وأرثوذكسية شرقية) وجديدة بروتستانتية (لوثرية، كالفينية، وانغليكانية). وأساس تلك الانقسامات كان الاكتشافات الجغرافية نفسها من حيث انها فتحت الطريق لاستغناء شمال القارة وغربها عن جنوبها وشرقها، وراكمت ثروات (ريع الاكتشافات وخراجها) في مناطق الاحتكاك التجاري مع «العالم الجديد»، الأمر الذي رفع من مستوى القارة العمراني (لاجتماعي - الاقتصادي).

ثالثاً، بداية تكون وعي جديد لشخصية القارة وتحديد مهمات تاريخية مختلفة عن المراحل السابقة. إذ ساهمت الاكتشافات الجغرافية في توسيع افق أوروبا الكوني وأخذت تبحث عن دور عالمي جديد يأخذ مكان عالمية المسيحية القديمة. كانت أوروبا تحاول الاستغناء عن المسيحية (الشرقية) العالمية واستبدالها بمسيحية أوروبية عالمية تعيد النظر في الطروحات القديمة وتجديدها فكرياً (عقلياً) لتتناسب مع متطلبات العصر الحديث.

ولد هيغل بعد تلك التحولات الكبرى على المذهب البروتستانتي - اللوثري في نهاية مرحلة (الاكتشافات الجغرافية، والحروب الدينية، وتحديد خطوط مواصلات تجارية جديدة) وبداية مرحلة (الاستقرار النسبي، وتحسن وضع القارة المعيشي، واندلاع الثورة الفرنسية ونشوء ظاهرة البونابرتية، وقراءة مختلفة لمهمات العصر الجديد).

في مرحلة طفولته وشبابه عاش هيغل ثلاثة تحولات تاريخية في أوروبا تركت حوادثها تأثيرات مباشرة على تفكيره وفلسفته، وهي:

أولاً، استقلال الولايات المتحدة السياسي عن بريطانيا في العام 1776 (1190هـ) وهو الاستقلال الذي سيمر بمراحل صعود وهبوط إلى أن تنجح القارة الجديدة في الانفصال الاقتصادي عن القارة القديمة في 1783 (1197هـ).

ثانياً: سقوط الباستيل واندلاع الثورة الفرنسية في العام 1789 (1203هـ) التي طرحت شعارات انسانية ومساواتية بتأثير من أفكار فولتير وروسو. وفي الآن ستنتج الثورة فكرها المستقل من خلال تأثيرات الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط وسياستها الخاصة (نابليون بونابرت).

ثالثاً، صعود نجم نابليون بونابرت (ولد في كورسيكا العام 1769 قبل سنة واحدة من هيغل) ودخول أوروبا عصر الفكر الامبراطوري العالمي. فالبونابرتية في النهاية هي سياسياً محاولة توحيد أوروبا بقيادة فرنسا وفي الآن نفسه محاولة توحيد العالم بقيادة أوروبا.

آنذاك لم يتردد هيغل في الانحياز إلى فكر الثورة الفرنسية وتبني افكارها الثورية والتغييرية واستمر متمسكاً بها حتى في مرحلة الحرب البروسية - الفرنسية. فألمانيا آنذاك لم تكن موحدة وكانت تتألف من 300 مقاطعة ومدينة حرة ترتبط بعلاقات جوار وتماس «روحي» مع الامبراطورية الرومانية المقدسة. وهي الامبراطورية التي استمرت ألف عام وسيضع نابليون في حروبه الأوروبية حداً لها وستكون نهايتها على يد جيوشه.

إلى ذلك، لم تكن الثورة الصناعية قد تحولت في فترة شباب هيغل إلى حال انفجارية قارية فهي كانت في بدايتها البريطانية وعلى شفير الانتقال إلى شمال القارة وغربها (1765 - 1781). حتى عندما انفجرت الثورة الصناعية وأخذت تنعكس تأثيراتها على أوروبا (1781 - 1820) لم يلحظ هيغل الكهل أبعادها المستقبلية (كان يعيش أسبابها وليس نتائجها) وهو أمر سيلاحظه كارل ماركس الذي ولد في العام 1818 (1233هـ).

في السياق التاريخي المذكور يمكن رسم صورة عصر هيغل سياسياً في ثلاثة اطارات. الأول، عاش ومات قبل أن تتوحد ألمانيا (توحدت على يد بسمارك البروسي في 1870). الثاني، شهد صعود الثورة الفرنسية وهبوطها، إذ عاصر بونابرت في أوج قمته وشهد نهاية أحلامه الامبراطورية وموته في 1821 (1236هـ) في جزيرة سانت هيلانه. والثالث، بداية انفجار الثورة الصناعية وامتدادها القاري تأسيساً على ريع الاكتشافات الجغرافية وما تركته من تأثيرات شجعت على طرح تصور كوني مضاد للكونية المسيحية وإعادة صوغ شخصية القارة (المركز الجديد) ودورها العالمي المزدوج، فهي قائدة نفسها وأيضاً قائد العالم القديم.

دخول أوروبا في مرحلة انتقالية دقيقة دفعها إلى بداية تحولات كبرى وفرض على فلاسفتها إعادة النظر في كل شيء، في محاولة للبحث عن شخصية جديدة ودور بديل. باختصار، كانت أوروبا في مرحلة البحث عن هويتها المستقلة وتأسيس نص مختلف يقرأ العالم وتاريخه من خلال «فكرها» و«قوانينها» و«فلسفتها».

وهنا بالضبط التقط هيغل تحولات المرحلة التاريخية والجغرافية والاجتماعية وأمسك بخيط الفلسفة وأعاد تركيبه مستفيداً من عصره المثقل بالنقاش والجدل والحوار. فالجانب الأول هو الاطار الموضوعي لعصر هيغل، أما الثاني فهو الاطار الذاتي لأعماله واشتغاله على فكر عصره وفلسفة العصور التي سبقته، القديمة منها (اليونانية والرومانية والشرقية) والجديدة (المسيحية المعاصرة والجرمانية والفرنسية). ومعه تطورت الفلسفة ووصلت في أعماله إلى قمتها الأوروبية وبعده أخذت في الانحدار.

كيف توصل هيغل إلى ما توصل إليه؟ كانت البداية في جامعة يينا (JENA) عندما كان يدرس الفلسفة ويلقي المحاضرات على تلامذته. آنذاك كانت أوروبا تمر في عصر عمالقتها (فكرياً وفنياً) على مختلف المستويات. غوته كان يمثل قمة الأدب الأوروبي، وموزارت ثم بيتهوفن (ولد في عام ولادة هيغل) قمة الموسيقى، وكانط قمة الفلسفة بعد رحيل فولتير وروسو.

ومن كانط تسللت الفلسفة العقلانية والاخلاقية إلى أوروبا، ومن الثورة الفرنسية تسربت الأفكار التغييرية. وكان الفيلسوف فيخته أول من التقط التحول المذكور وأمسك به. فقد استند إلى كتابات كانط وهي كتابات أطلقت في فرنسا موجة من الالحاد امتدت من 1789 إلى 1813 وصلت إلى حد مطالبة بعض الفلاسفة بإلغاء المسيحية وتبني أفكار الثورة (فولتير، روسو) وفلسفة كانط فقط.

في هذا الجو المضطرب المشحون بالصراع بين العقل والعاطفة وبين الفكر المثالي والفكر المادي أصدر فيخته كتابه عن فلسفة الاخلاق في 1798 (1213هـ). ولم يخرج فيخته عن مقولات كانط ونظرياته بشأن الحواس وانعكاسها على العقل ومسائل الفعل وردة الفعل والعلة والرغبة، والواقع والانفعال. واستند إلى موضوعة المعرفة بذاتها عند كانط كقاعدة لنظرياته الفلسفية التي دمجت بين العقل والاخلاق. وفتح فيخته الباب لشيلر للمباشرة في إصدار أبحاثه الاجتماعية اللاحقة.

في هذه الفترة لم يكن نجم هيغل بدأ بالصعود بل كان يعيش مرحلة صعود نجم صديقه شيلنغ الذي ربطته معه علاقة حميمة عرفت الكثير من التعاون والنقاش والحوار وإن انتهت إلى خصام بينهما. في تلك الفترة ايضاً اقدم شيلر على نقد فلسفة كانط (الاخلاقية والعقلية)، مستخدماً منهج كانط نفسه وأخذ يعمل على التقليل من تأثيرات الفلسفة الفرنسية على الفكر الالماني وخصوصاً في منهج فيخته.

وفي جو التشويش الايديولوجي حاول هيغل، في أول مقال فكري مهم له، عقد مقارنة بين فلسفة فيخته وفلسفة شيلنغ انحاز في نهايته إلى صديقه. إلى صداقة الفيلسوف شيلنغ كان هيغل من أعز اصدقاء الشاعر هولدرلن الذي كان له الفضل في تعريفه على الأساطير ورموزها وخصوصاً «آلهات» أثينا وروما.

في هذه الفترة الدقيقة من حياة هيغل الفكرية (كانط، فيخته، شيلر وشيلنغ) والشاعرية (غوته وهولدرلن) والموسيقية (موزارت وبيتهوفن) صعد نجم بونابرت السياسي في فرنسا ومن ثم أوروبا.

لمع اسم نابليون في العام 1793 وانتخب في العام 1802 «قنصلاً» مدى الحياة، ثم اعلن امبراطوراً. وفي الوقت الذي بدأ نابليون يخطط لاجتياح أوروبا و«توحيدها» توفي كانط في العام 1804، وفي السنة نفسها بدأ الامبراطور حروبه في أوروبا وضدها.

حتى ذاك الوقت كانت أفكار الثورة لاتزال في أوجها ومازال هيغل من المعجبين بها والمدافعين عن شعاراتها وغاياتها الإنسانية. إلى ذلك، كان هيغل قد بدأ في تأسيس فلسفته (نصه) المستقلة عن تأثيرات كانط وفيخته وشيلر وشيلنغ. وشاءت المصادفة أن تترافق أول أعمال هيغل الضخمة في 1806 و1807 مع بداية حروب نابليون في وسط أوروبا وشرقها وسحقه قوات بروسيا واحتلاله مدينة يينا (الجامعة التي يدرس فيها هيغل).

لم يتشنج هيغل ولم تحطم حروب نابليون تأييده للثورة الفرنسية. ردة فعل هيغل تختلف عن تلك التي حصلت في مواقف عبدالرحمن الجبرتي حين اقتحمت جيوش نابليون جامع الازهر. والاختلاف بين الموقفين يعكس تلك اللحظة المفارقة بين حضارة صاعدة (أوروبا) وحضارة تخلفت عن لعب دورها التاريخي. ردة فعل هيغل تعبر عن نزعة متفائلة تقرأ التاريخ في سياق المستقبل بينما ردة الجبرتي الذي عاصر الزمن نفسه ولقي بونابرت تعبر عن نزعة متشائمة متخوفة من المجهول وتنظر إلى التاريخ من موقع الماضي.

أدى احتلال يينا إلى اقفال الجامعة وبدأ هيغل يبحث عن عمل فاشتغل في صحيفة ثم حصل على وظيفة جامعية في نورمبورغ ومكث هناك 9 سنوات متواصلة. في هذه الفترة (1809 - 1818) تزوج، وكان يبلغ من العمر 41 سنة، وأخذت منظومته الفلسفية تشق طريقها المستقل ولمع اسمه في عالم الفكر والمعرفة.

في وقت كان نجم هيغل يصعد كفيلسوف وصاحب مشروع فكري مستقل كان نجم بونابرت يهبط وأخذ مشروعه السياسي يتلقى الضربات العسكرية الواحدة تلو الأخرى. فبعد أن اكتسح نابليون وسط أوروبا شق طريقه نحو أوروبا الشرقية إلى أن جهز حملة عسكرية كبرى ضد روسيا في العام 1812. وهناك بدأ مشروعه بالتقهقر إلى أن تلقى هزيمة كبيرة في ليبزغ (شرق ألمانيا) في 1813. بعدها تم نفيه إلى جزيزة ألبا في 1814 وهرب منها وحاول تجميع قواته مرة أخرى فتلقى هزيمة منكرة في واترلو في 1815 (1230هـ) وتم اعتقاله ونفيه إلى سانت هيلانه وبقي هناك حتى وفاته في 1821.

بين هزيمة مشروع نابليون في 1814 - 1815، ووفاته في 1821 ضربت أوروبا موجة رجعية ارتدادية على المستوى الفكري تشبه إلى حد كبير الموجة التي عمت القارة بعد انهيار حائط برلين في العام 1989. في تلك الفترة اهتزت الأفكار الانسانية والتغييرية وحصلت تموجات خالفت الكثير من الشعارات والقيم التي سادت بين انفجار الثورة الفرنسية وهزيمة بونابرت.

وعلى رغم هذا الانقلاب الفكري / النفسي الذي عم أوروبا واصل هيغل انجاز مشروعه الفلسفي الذي وصل إلى قمته عندما احتل استاذية الفلسفة في جامعة برلين من 1818 حتى وفاته في العام 1831 (1247هـ). وتعتبر الفترة الأخيرة من حياته الأغنى إذ أوصل فلسفته إلى نهايتها المنطقية المجردة، وفي الآن نفسه قام بتطبيقها على مختلف علوم المعرفة وحولها إلى قانون شامل (منهج) يفسر كل شيء خصوصاً في حقلي الاجتماع البشري والتاريخي الإنساني.

في هذه الفترة (1818 - 1831) انصبت روافد عمالقة أوروبا في مجرى نهر هيغل الفلسفي الكبير ونجح في تأسيس الهيغلية، حين أخذ يعيد النظر في كل شيء حتى في بعض ملامح مرحلة شبابه. فالفلسفة آنذاك كانت كالسياسة والجغرافيا تمتد بعيداً إلى أفق لا محدود. كانت تعني نظرية معرفية متكاملة ونظرة شمولية للفن والأدب والفكر والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والاجتماع.

كان كل كتاب جديد محاولة لبداية جديدة. وكان كل فيلسوف يكمل من سبقه ويضيف عليه ويتجاوزه ويسلم طرف الخيط لمن يتقدم بعده. فالفكر في أوروبا في فترة الانتقال من نهاية القرن الثامن عشر إلى مطلع القرن التاسع عشر اتسم بالتناقض وتميز أيضاً بالشمولية والكونية والإنسانية في سياق نهوض حركات ونظريات قومية وعنصرية وعرقية. ومشكلة هذا الفكر المتناقض أنه اجتهد في الاختصاص في مختلف حقول المعرفة محاولاً تطبيق نظرياته (القانون) المكتشفة على البشر وتاريخهم الاجتماعي، الأمر الذي أنتج لاحقا تلك النزعة التفوقية في أوروبا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1330 - الخميس 27 أبريل 2006م الموافق 28 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً