تولّد من الليبرالية نظامان، الديمقراطية كنظام سياسي، والرأسمالية كنظام اقتصادي. كانت الليبرالية الكلاسيكية على المستوى الاقتصادي ترفض تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بما يحمي حقوق الأفراد من خلال القانون، ويعد آدم سميث من أكبر المتحمسين لهذا النظام. إلا أن الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت العالم الرأسمالي سواء بعد الحرب العالمية الأولى أو بعد الحرب العالمية الثانية، دفعت إلى تغيير في التفكير الليبرالي، فأنتج ليبرالية جديدة على المستوى الاقتصادي تدفع بتدخل الدولة، وتطالبها بتحمل مسئولية الخدمات للمواطنين ورعاية الضمان الاجتماعي للعاجزين والمتعطلين.
وبما أن الشيوعية هي العدو الأكبر لليبرالية، لذلك فبعد أفول نجم الشيوعية، أصيبت الليبرالية بالغرور، وتنادت دعوات جديدة بالرجوع إلى الليبرالية الكلاسيكية التي تدعو الدولة لرفع يدها عن كل ما يعني الاقتصاد بما فيها الخدمات. وقد لاقت هذه الأصوات صدى في بعض بلدان العالم الثالث، وكان الضحية هو القطاع العام الذي يفترض به أن يكون ملكاً خاصاً للأفراد وفقاً لهذه الدعوات. المشكلة لا تكمن في بيع القطاعات الإنتاجية، وإنما تكمن في هذه الوتيرة المتسارعة نحو خصخصة الخدمات، والتي قد تثقل كاهل العاجزين ومحدودي الدخل.
المهم أن الدعوات الجديدة إلى الرجوع إلى الليبرالية القديمة على المستوى الاقتصادي ليست محدودة في إطار الدولة، بل هي دعوة لعولمة اقتصاد السوق الحر المرتكز على النظام الاقتصادي الرأسمالي، وفتح الأسواق للشركات العابرة للقارات. طبيعي أن أبا النظام الرأسمالي آدم سميث كان يعتقد أنه ومن خلال النظام الرأسمالي حدوث منافسة بين المنتجين تكون في صالح المستهلك، ولم يكن يتوقع أن الاحتكار هو النتيجة النهائية التي حدثت فيما بعد ومازالت تتعمق يوما بعد يوم، حتى أضحت الشركات العابرة للقارات هي المتحكم الرئيسي في مفاصل الاقتصاد العالمي.
لقد عاكس الواقع ما كان يعتقده سميث، فالشركات الكبيرة المتنافسة كرست سيطرتها التامة على الحياة الاقتصادية عن طريق اندماج كبرياتها مع بعضها بعضاً، لتشكل جبهة ضد المستهلكين وضد العمال، وأصبحت السوق محتكرة لهذه الشركات. بعض هذه الشركات العملاقة، يصل دخل الواحدة منها ما يزيد على موازنة دول نفطية كبيرة، فشركة نستله السويسرية والمجموعات التابعة لها تتجاوز عوائدها موازنات دول الخليج مجتمعة.
وكلما انخفض سعر بضائعها في منطقة ما، كان وراء هذا الانخفاض شقاء وبؤس يعيشه عمال هذه الشركات في بلدان متخلفة أخرى لا تتوافر فيها أدنى مراعاة لحقوق العمال، وخصوصاً أنها بلدان رأسمالية النظام الاقتصادي، ولكنها دكتاتورية من ناحية النظام السياسي. فقدرة هذه الشركات على توفير بضائع بسعر معقول في بعض البلدان دون الأخرى، يعود في جزء منه إلى مكان تصنيعها في الدول الفقيرة، إذ أجور العمال برخص التراب مقارنة مع الأجور في الدول الغربية، وهذه أحد أوجه العولمة التي تسعى لفرضها الدول الرأسمالية الكبرى.
المشكلة الأساسية تكمن في دعم توجّه الدول المتخلفة بالتحول إلى الرأسمالية ونظام اقتصاد السوق الحر فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي، دون الاعتناء الحقيقي بالتحول إلى الديمقراطية الحقيقية بالنسبة إلى النظام السياسي. إضافة إلى ذلك، توجد ازدواجية في تطبيق متطلبات عولمة اقتصاد السوق الحر لصالح الدول العظمى... كيف؟ المعروف أن السلع تتحدد أثمانها في هذا النظام وفق قانون العرض والطلب، وقوة العمل تعد سلعة وفق النظام الرأسمالي لا تخرج عن نطاق هذا القانون، فكلما توافرت الأيدي العاملة بصورة أكبر، قلّ الطلب عليها وقلّ أجرها، والعكس بالعكس. ولأن الهدف فرض اقتصاد السوق الحر على مستوى العالم، فيجب رفع القيود الجمركية على السلع لتمكينها من التنقل بين البلدان. ولأن قوة العمل سلعة ويتحدد مستوى الراتب وفقاً لتوافرها أو ندرتها، لذلك لا يحق للدولة فرض حدّ أدنى لرواتب العمال، ولا فرض نسبة لتوظيف المواطنين، ومن أجل عولمة اقتصاد السوق الحر ومن ثم سيادة قانون العرض والطلب، يحق للشركة العابرة للقارات أن توظف عمالا من دول أخرى، الأجر فيها زهيد ومنخفض.
بغض النظر عن كثير من الأمور، فإن بعض أوجه المشكلة هنا تكمن في التطبيق المجتزئ لعولمة اقتصاد السوق الحر وتسييد قانون العرض والطلب من قبل الدول الكبرى، فالولايات المتحدة التي تعد المتزعمة للعالم الرأسمالي، مع أنها تطالب بتطبيق جزء من متطلبات عولمة الاقتصاد، وهي رفع القيود الجمركية عن السلع المادية والخدمية والتي لا يمكن للدول النامية منافسة الشركات الأميركية فيها، ولكنها ترفض تطبيق الجزء المكمل في المجال التي يمكن أن تنافسها الدول النامية، فلا تقبل برفع القيود عن انسياب ودخول العمال الأجانب لها، لذلك ليس سهلا أن استقدام عامل أجنبي مادام هناك أمريكي قادر على القيام بالوظيفة نفسها.
ويرى بعض المفكرين أن الشركات العابرة للقارات تسعى للسيطرة على إنسان الدول الأخرى بتقليص دور تلك الدولة، بل السيطرة على كل شيء، بما فيها الحراك السياسي مستقبلا، يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير/ شباط من العام 1996 أمام المنتدى الاقتصادي في دافوس «إن غالبية السياسيين لايزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال، لا، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها» (أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة: كتاب «فخ العولمة» ومنه أخذت النصوص السابقة). ولكن كي تتكرس هذه الحالة، فهذه الشركات في حاجة لدعم الدول العظمى التي تنتمي إليها، ما يعني حتمية استرضاء شعوبها عن طريق توفير العمل والمعاش الجيّد، وهذا يتطلب رفع المنافسة لمواطني تلك الدول العظمى من قبل قوة العمل الأجنبية من الدول النامية ذات الرواتب المتدنية، ما يعني تطبيقاً في اتجاه واحد لمتطلبات اقتصاد السوق الحر العالمي يتضرر منه إنسان الدول النامية فقط
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1330 - الخميس 27 أبريل 2006م الموافق 28 ربيع الاول 1427هـ