العدد 1329 - الأربعاء 26 أبريل 2006م الموافق 27 ربيع الاول 1427هـ

كتابة في الخوف والاستبداد

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الحائط صديق للعربي، والدليل: «خلك جنب الحيط»، والطرق الطويلة صديقة له أيضا: «روح بعيد ورد سالم»، لتتوالى على العربي أنظمة عمل هو على تعطيل حواسه الرئيسة: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، من دون أن تكلف تلك الأنظمة نفسها عناء امتحانه في درس «الفلقة»، أو نزع الأظافر، عدا عن ممارسات أخرى!

في الجانب الآخر، ثمة بنية تربوية في الأسرة تصر على ادخال حال من الرعب في نفسية الطفل، في حال ارتكابه خطأ - بمعيارها - فيما هو لم يستو بعد على رشد أو على تمييز، فتجيز براءته وطفولته ما لا تجيزه له الأسرة، ولحظتها يظل يحفظ لازمة التحذير والتوبيخ عن ظهر قلب: «بتروح النار»، بدل «ان الله يحب المطيعين». من دون أن ننسى عدداً من الخطباء الذين لا هم لهم - بمناسبة أو من دون مناسبة - سوى أن ينزلوا عن منابرهم وحولوا النسبة الكبرى من جماهيرهم الى متسببين في حوادث بالجملة على الطرقات، طرفها الراكب والراجل. الأول يستعيد صور الهول بتفاصيله، والراجل يقطع الطرقات المزدحمة بالمركبات وكأنه في مخيم بري! اذ ذهنه في صور العذاب وأشكاله.

تكريس «ثقافة الأمان» ضرورة، والقرآن الكريم حرص عليه في عدد من المواضع التي يتجاهلها بعض الخطباء، وواحد من منبهات حاسة الغضب والتوتر هي تلك الحزمة والوجبات المبرمجة من بث الرعب والخوف والقلق التي تلتقي في تمريرها وحقنها أطراف لا يمكن أن تلتقي حتى في نازلة أو كارثة. إذا ما اختلقنا أعذاراً لذلك البث والتمرير والحقن الذي تمارسه الأنظمة بالخروج على احتمال وطاقة الذهن البشري على تصوره وتمثله، فيمكننا القول إن الأنظمة تمارس شهوتها في البقاء وإن استوردت شعوبا لتحكمها بعد ابادة مواطنيها، إلا انه يصعب مثل ذلك الاختلاق مع المنابر وأطرافها، لأنها في النهاية تظل مسئولة عن التردي في الحالين والدارين: حال الاهمال، وحال التهويل، ودار ينفصل فيها عن جانب روحي له فعله وتأثيره، وإحداث توازنه، وبين أخرى ينقطع فيها عن حركة تلك الدار وينعزل عما يموج فيها من حراك وتحول وتبدل وأخذ بأسباب الحياة ومتطلباتها.

ذلك الضخ والتركيز المفرط على الخوف وفقهه يحيل الحياة الى عبث ودار «رسوب» منذ الوعي على «افعل ولا تفعل»، بدل أن تكون دار ابتلاء: امتحان تتاح فيها للمرء أسباب وعوامل اجتيازه، ولن يكون الخوف حد المرض أحد تلك العوامل، ولن يكون الرعب حد الموت طريقاً مؤدية الى الخروج من قاعة ذلك الامتحان بأسارير نصر لا تخفى على أحد. ويظل مرد جزء كبير من ذلك البث والتمرير والحقن الى بنية أنظمة مدت مظلة رعبها وعممت فقه الخوف الذي أنتجته على مساحات ومناطق من المفترض انها تملك خياراتها وأطروحاتها، وقبل ذلك وعيها بحركة الاملاء وفقهه. تعميم ثقافة الخوف ينتج أوساطا لا علاقة لها بالأخذ بالأسباب الطبيعية والمنطقية لتطور الإعمار البشري، والذي يعني في نهاية المطاف، أخذا بالأسباب الطبيعية والمنطقية لتطور النوع البشري وما يصدر عنه. مثل ذلك التعميم، نتائجه واضحة ولا تحتاج الى إعمال مناهج في التحليل للخروج بنتائجه ومحصلاته.

وحين نقول تعـميم ثقافة الخوف، لا نبتعد كثيراً عن حال من تعميم الاستبداد وثقافته، ولعل الرائد الأول في هذا المجال - حديثا - هو عبدالرحمن الكواكبي، الذي أفرد جزءاً من مشروعه الفكري الجريء لتناول جانب من هذه الآفة التي عصفت بالإنسان العربي والمسلم، وأحالته الى اشاعة مخلوق، وخصوصا في سفره اللامع «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».

لماذا نستدعي التاريخ في هذا الصدد؟ هل لأن أفراده ونخبته والممسكين بزمام الأمور فيه أسسوا لتلك الثقافة وذلك الاستبداد؟. ولكن المسألة لا تبحث فيمن أسس، إذ الاستبداد وكذلك الخوف قديمان في سلوك وممارسة وطبع الإنسان، بغض النظر عن مقولة ان «الإنسان بطبعه خير» ولكنها ممارسات لم ترتكبها أشياء، ولم ترتكبها جبال أو حيوانات داجنة، أو حتى مخلوقات هبطت علينا من كواكب قصية. ولعل إصرار مثقفينا ومفكرينا، بل وحتى مؤرخينا المعاصرين على مسألة التأسيس تلك، يعد واحداً من أنفاق الهروب من لب الإشكال الراهن، وهو هروب لا يكمن سببه في استنفاد أساليب وأدوات التحليل بقدر ما هو مرتبط بعقيدة وثقافة الخوف نفسها، وواقع الاستبداد القائم.

إن محاولة رمي الكرة في ملعب فترات تاريخية ممعـنة في زمنها وقدمها، وتحميلها أسباب ونتائج التراجع والارتداد الذي ينتاب الحياة العربية والاسلامية اليوم، لا يخلو من هروب من التشخيص، ولا يتجاوز كونه محاولة لاستبعاد جزء كبير من الإشكال الراهن وتداعياته على النفسية العربية والمسلمة المعاصرة، واستبعاده أيضا محصلات الخوف والاستبداد، من الممارسات الراهنة، الأمر الذي يعمق ويكرس تلك الممارسات والسياسات في الحياة العامة ويدعها في مهب رياح مصادفة التغيير، اذ لن يحدث ذلك. إلا انه في الوقت الذي لا يمكن إلقاء تبعات ثقل الممارسات والسياسات تلك على التأسيس التاريخي، يجب ألا نغفل أن تلك الفترة الزمنية عملت على خلق حال من التراكم في الممارسات والسياسات بحيث غدت طبعاً بحسب تعبير الكواكبي، وهو طبع تجلى في حده الخطير والمفزع والخارج على الثوابت والقيم، بحسب رؤية الكواكبي، أو لنقل بحسب تشخيصه : «ما من مستبد سياسي، الا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله» ولا يبتعد تشخيص الكواكبي كثيرا عن مآل استبداد ملك انجلترا جيمس الأول حين قال: «اننا نحن الملوك، نجلس على عرش الله على الأرض».

لا يمكن إلقاء تبعات ثقل الممارسات والسياسات تلك على التأسيس التاريخي بصورتها المطلقة، فثمة ممارسات حديثة ربما تكون قد تجاوزت السابقة لها بمراحل، في تعميم ثقافة الخوف والاستبداد. الا أن ما يجب ملاحظته في هذا الصدد، انه على رغم عدم امتلاك مراكز الخوف والاستبداد لذلك القدر من طاقات الاعلام والنشر والبث حينها، فإن المخيلة المعاصرة لجانب من الخوف والاستبداد، ظلت أكثر فاعلية وقدرة وتأثيراً في هذا المقام، وخصوصا أن وسائط الاعلام الراهنة ظلت قادرة الى حد كبير على حجب وتحديد ما تريد تمريره وما تريد حبسه ومنعه. وهي مخيلة ظلت على قدر كبير من التحوير والحذف والإضافة، والاثارة والتشويق، تماماً كما هو الحال مع وسائط الاعلام الراهنة. ربما يكون علي بن الحسين المسعودي في سفره الكبير «مروج الذهب» بأجزائه الأربعة، أكثر المصادر التي حوت بين دفتي السفر صورا من حركية تلك المخيلة، وهو يورد أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، قال في خطبة له لما أفضت له الخلافة: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا، الا ضربت عنقه» ولا تخلو المخيلة هنا من وضع أي تقول يمكن رده منطقا واستعدادا نفسيا في الوقت نفسه، اذ جبلت عادة المرء على أن يستأنف ويتصدى لدور من سبقه بما يزين صورته في مقامات بعيدة عن منصب خطير كالخلافة، فما بالك بمنصب على تلك الدرجة من الحساسية والخطورة، اذ يصعب قبول منطق وعيد بهذه الدرجة التي لا تخلو من تقول، يبدر من رأس الدولة الاسلامية في اليوم الأول لمباشرته مسئولياته.

إلا أن ما تجب الاشارة اليه هنا، أن ثمة من يعمل على ضخ حال من خيال الاستبداد أو تخيله لتكريس واقع من الخوف وثقافته، ولم يسلم المؤرخون من حال التمرير والتكريس ذاك بل وأحياناً التواطؤ مع تلك الحال. إلا ان شخصية ضاربة في استبدادها لا يمكن أن تقول عليها ما لم تكن في الصميم من الفعل وتكرار الممارسة، وخصوصاً أن مصادر كثيرة أجمعت عليه، وأعني الحجاج بن يوسف الثقفي، بكل دمويته وتكريسه وتفعيله لحال الخوف وثقافته والاستبداد وسياسته : «والله لا آمر أحداً أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه، الا ضربت عنقه!».

وما ورد في «البداية والنهاية» لابن كثير، و«مروج الذهب» للمسعودي، من أن خالد بن عبدالله القسري، والي الكوفة وفي صبيحة عيد الأضحى «وقف يخطب على المنبر خطاباً جامعاً قال في نهايته: أيها الناس، اذهبوا وضحوا بضحاياكم، تقبل الله منا ومنكم، أما أنا فمضح اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول : ما كلم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ ابراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول علوًّا كبيراً ثم نزل واستل سكيناً وذبحه أسفل المنبر!».

وكذلك ما ذكره ابن كثير في « البداية والنهاية» في الجزء العاشر (صفحة 99) من ان ابن المقفع أرسل الى أبي جعفر المنصور كتاباً أسماه «رسالة الصحابة» نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، و حسن سياسة الرعية، فعوقب لأنه تجرأ على النصح والارشاد، بتقطيع أطرافه قطعة قطعة «وأحمى له تنورا، وجعل يقطعه إرباً إرباً، ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر الى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في وصف قتله»

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1329 - الأربعاء 26 أبريل 2006م الموافق 27 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً