نؤكد أن تعظيم الاستفادة من اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة يتطلب إزالة محددات الطاقة الاستيعابية للاقتصاد البحريني. وعرضنا في مقالين سابقين للمناخ الاستثماري والمستوى التقني المتاح كمحددين للطاقة الاستيعابية. وفي مقال اليوم نستعرض محدداً آخر من المحددات الهيكلية للطاقة الاستيعابية وهو مدى استغلال الخبرات البشرية المتاحة، إذ تلعب قوة العمل دوراً مهماً في إمكانات التوسع في الطاقة الاستيعابية للاقتصاد القومي، وذلك لأنه يوجد ارتباط وثيق بين حجم الاستثمار وحجم قوة العمل. ومن الخطأ النظر إلى عنصر العمل كعنصر متجانس، إذ يختلف العمال فيما بينهم من حيث الإنتاجية (النوعية). ويرجع ذلك لأسباب مختلفة عدة نستطيع أن ندمجها في مجموعتين:
- مجموعة المبادئ والقيم التي يتوارثها الأفراد فيما يتعلق برغبتهم في العمل ورغبتهم في تحسين أدائهم... إلخ وتختلف هذه المبادئ والقيم من فرد إلى أخر وكذلك من مجتمع إلى آخر.
- مجموعة الخبرات والمهارات التي يكتسبها الأفراد من خلال التعليم والتدريب.
ويتحدد عرض العمل بحجم السكان والتركيب السكاني، من حيث فئات العمر والجنس، والعوامل الاجتماعية الأخرى، مثل التعليم ورغبة وقدرة النساء على العمل خارج المنازل. ولا يخفى أن عرض العمل يعد قيدا على الاستثمار في حال التوظف الكامل.
وتعاني الدول النامية عموماً من خفض الإنتاجية عموماً وإنتاجية عنصر العمل خصوصاً. وتعرف الإنتاجية الجزئية أو إنتاجية عامل إنتاج معين بمتوسط الإنتاج للوحدة منه، ومن ثم تقاس الإنتاجية الجزئية لأحد عوامل الإنتاج بقسمة الإنتاج الكلي على عدد الوحدات المستخدمة من عامل الإنتاج المعني. وتعد الإنتاجية أفضل تعبير عن الكفاءة الاقتصادية. وترتبط الإنتاجية ارتباطا وثيقا بالنمو الاقتصادي، فتحسن الإنتاجية يعني زيادة الدخول التي تعد منافع خارجية ومن ثم تنتشر في الاقتصاد وتؤدي إلى النمو الاقتصادي. وبمعنى آخر فإن نمو الإنتاجية يعكس قدرة الاقتصاد القومي على زيادة الإنتاج باستخدام كمية محددة من المدخلات.
ويرجع خفض إنتاجية عنصر العمل لأسباب كثيرة أهمها ضعف العملية التعليمية ما يؤدي إلى تفريخ خريجين ذوي مستويات متدنية من المهارات والخبرات مما تتطلبه الوظائف المعروضة في سوق العمل، وهنا يجب أن تتم دراسة مستفيضة لجانبي السوق - الطلب والعرض - ومحاولة التوافق بينهما وما يتطلبه ذلك من إعادة هيكلة العملية التعليمية لتوفير المهارات والقدرات التي تتطلبها سوق العمل.
وقد دار الكثير من الجدل حول كيفية مواجهة الانخفاض في إنتاجية العمال، وخصوصاً بعد ظهور ما زعمته كتابات نظرية في الخمسينات من وجود أفراد كثيرين تصل إنتاجيتهم إلى الصفر وهو ما يعرف بالبطالة المقنعة. وجعل «راجنار نيركسه» و«آرثر لويس» هذا الرأي محور تحليلهما لمسار عملية التنمية. فقد بين نيركسه أن إعادة توزيع فائض العمل على مجالات أعلى إنتاجية يشكل مصدراً أساسياً للتكوين الرأسمالي والنمو الاقتصادي، وقد تبنى« آرثر لويس» في تحليله الفكرة نفسها، إذ أظهر أن سحب القطاع الأعلى إنتاجية لقوة العمل الزائدة الموجودة في القطاع الأقل إنتاجية لن يؤثر على الإنتاج، نظرا إلى ان العمالة الزائدة لا تضيف شيئا إلى الإنتاج. وعلى أية حال يمكن القول إن الدول النامية تعاني بشكل عام من نقص العمالة الماهرة، الأمر الذي يؤثر بدرجة كبيرة على إنتاجية الاستثمار.
الوضع في البحرين
تتسم سوق العمل البحرينية بسمات خاصة نوجزها في الآتي:
الاعتماد بشكل يتعاظم على العمالة الأجنبية وذلك لأسباب منها عدم توافر عمالة وطنية بالمهارات والخبرات والمؤهلات المطلوبة في مجالات عمل معينة وعدم رغبة العمالة الوطنية في شغل وظائف بعينها وأخيراً انخفاض أجور كثير من العمالة الأجنبية. لاريب أن استخدام عمالة رخيصة يعد فعلاً ميزة تمكن من خفض كلفة الإنتاج ولكن بشرط ألا يكون ذلك على حساب الجودة ولاسيما في ظل النظام العالمي الجديد الذي تتحكم فيه مؤسستا اتفاق بريتون وودز العام 1944 ومنظمة التجارة العالمية، إذ أصبح العالم قرية صغيرة اختفت فيها الحواجز والعقبات أمام التجارة بين دول العالم ومن هنا اشتدت المنافسة وأصبحت الغلبة لمن يقدم سلعاً وخدمات أكثر جودة وأقل كلفة. وهنا نرى ضرورة إعداد دراسة مستفيضة عن العمالة الأجنبية في البحرين تتضمن جانبي الكلفة والعائد وتبني سياسات حازمة يكون الغرض منها ضمان أن يكون عائد توظيف عمالة أجنبية يفوق كلفتها.
تدني مستويات الأجور عموماً على رغم استخدام الحكومة سياسة الحد الأدنى للأجور في القطاع العام. والسبب الرئيس في تدني الأجور في المملكة هو تزايد نسبة العمالة الأجنبية ولاسيما في القطاع الخاص الذي يقبل العمل بمستويات أجور متدنية، ما يدفع العمالة الوطنية إلى قبول تلك الأجور المتدنية. والرأي عندنا أن يتم تمديد سياسة الحد الأدنى للأجور لتشمل القطاع الخاص.
انخفاض إنتاجية عنصر العمل عموماً لتكون متدنية بشكل كبير في وظائف ومجالات معينة وتتطلب مواجهة ذلك إعداد دراسات متعمقة لقياس الوضع الراهن لإنتاجية العمل ثم اقتراح الحلول المناسبة والتي تكون منها إعادة تسكين أو هيكلة القوى العاملة في تلك المجالات بهدف رفع إنتاجيتها.
ارتفاع نسبة البطالة التي تعد صورة واضحة لعدم الاستغلال الكامل للخبرات البشرية المتاحة في الاقتصاد البحريني، إذ تقدر نسبة البطالة بأنواعها المختلفة في المملكة بنحو 15 في المئة من جملة القوى العاملة. وجملة القول إن عدم الاستفادة الكاملة من الخبرات البشرية المتاحة في الاقتصاد البحريني تمثل محددا مهماً من المحددات الهيكلية للطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني والتي تحد من قدرته على الانطلاق ومن ثم تحد من قدرته على الاستفادة من اتفاق التجارة الحرة مع أميركا. لذلك يلزم اتخاذ حزمة من السياسات المناسبة لزيادة الاستفادة من تلك الخبرات ومواجهة أوجه القصور في سوق العمل البحرينية، ودعم تخطيط واقعي للقوة العاملة في البحرين
العدد 1329 - الأربعاء 26 أبريل 2006م الموافق 27 ربيع الاول 1427هـ