على امتداد العقود الماضية سلبت الحكومات العربية ومنها حكومة البحرين المواطنين الحقوق الإنسانية الأساسية وأصبح المواطن العربي - كرد فعل أحيانا - لا يكتفي بالمطالبة بحقوقه الدستورية، بل يطالب بالجلوس بديلا للسلطة ومحلها، ويمارس تطرف السلطة وربما أشد منها أحيانا. غير أن الأساس في الموضوع هو استمرار سلب الحقوق الدستورية والقانونية التي نص عليها الدستور وارتضاها المجتمع والسلطة معا.
وحتى لا نبتعد كثيرا عن هذا الموضوع، فقد رتب الدستور في المملكة حقوقا للسلطات الثلاث التشريعية، التنفيذية والقضائية ومنع تنازل أي منها لاختصاصاته بل أجاز تعاونها لتحقيق المصلحة العامة والتنمية الشاملة وحدد آليات واضحة وأزمنة لتقديم الموازنة العامة للدولة. فهل تقديم الموازنة قبل نهاية دور الانعقاد الأخير في الفصل التشريعي الأول بأسابيع معدودة تحقق التعاون المنشود الذي حث عليه الدستور بين السلطتين؟
إننا نكاد نجزم أنه من باب الاستقواء والتعدي على اختصاص السلطة التشريعية المنتخبة المقبلة وليس من الأعراف البرلمانية المتبعة، ولا يحقق مقولة الإدارة الحديثة، ويثير تساؤلات كثيرة ليست من مصلحة المملكة الدخول فيها. ومن دون افتراض سوء النية فإن موعد تقديم الموازنة كما تتداولها التسريبات الصحافية والشائعات من المحتم أن يسبب إرباكا في الأوساط السياسية والشعبية ويمكن أن تطال آثاره السلبية اقتصاد البلاد والإدارة السياسية أيضاً.
يعرف قانون الموازنة العامة المرسوم بقانون رقم 39 لسنة 2002 الموازنة العامة للدولة على أنها «الأداة السياسية المالية للدولة وتتضمن بيان الإيرادات المقدر تحصيلها والمصروفات المقدر إنفاقها للحكومة خلال سنة مالية ماضية وبما يحقق الاستقرار والنمو الاقتصادي من خلال التخصيص العادل للموارد الوطنية ليتم استغلالها بكل كفاءة وفعالية، وتتألف الميزانية العامة من المحتويات المنصوص عليها في المادة 7 من هذا القانون».
والسؤال البديهي هو: ما هو القصد من تكهنات إحالة الموازنة إلى مجلس النواب وهي التي تربط إقرار الموازنة للعامين 2007 - 2008 بالاستحقاق الدستوري والانتخابات النيابية؟ إذ لا يوجد مانع قانوني أو دستوري لإجراء الانتخابات في موعدها الدستوري الذي يقع في موعد أقصاه 13 ديسمبر/كانون الأول المقبل، إذ إن الانتخابات النيابية يمكن أن تقام في موعد يبدأ من 13 أغسطس/آب حتى 13 ديسمبر 2006 وإذا كان نظام الانتخابات يتطلب دورتين انتخابيتين مع الإعلان عن نتائج الانتخابات لمدة عشرة أيام، ويتطلب قانون الانتخابات الإعلان عن موعدها بخمسة وأربعين يوماً قبل هذا الموعد، فإن لجلالة الملك الحق أن يعلن موعد إقامة الانتخابات في أي وقت يشاء خلال المدة الدستورية والقانونية المقررة على أن يبدأ الفصل التشريعي الثاني يوم 14 ديسمبر لكي لا ينشأ فراغ دستوري ما لم يمارس الملك سلطته لتمديد المجلس الحالي.
ولذلك فإن ربط إقرار موازنة 2007 - 2008 بالانتخابات لا مبرر له ولا مسوغ قانوني. وبالنتيجة فإن هذه المسألة ربما تكون سياسية أو رسالة في هذا الإطار قد تأتي بما هو أسوأ إذا تمت قراءتها بسوء نية وفق المعطيات الملتبسة الحالية وحالة الشك السائدة بين الأطراف، في الوقت الذي أكد جلالة الملك في كلمته السامية في العيد الوطني المجيد في ديسمبر 2005 «إن غاية ما نسعى اليه هو إشاعة جو عام من التراضي الوطني على سائر القضايا الأساسية المهمة مع الحرص على ثوابت المجتمع البحريني وعلى التوازنات الدقيقة التي نتميز بها والتي تصب بالنتيجة في تحقيق التقدم وضمان استمرار المسيرة وتعزيزها ومدها بأسباب القوة والازدهار».
إن القراءة الحصيفة تدل على أن روح كلمة جلالته هي تشجيع روح التراضي وإشاعة الثقة وإشراك الشعب في صنع القرار على جميع المستويات، وليس بوسعنا إلا أن نستغرب عن الحكمة في ربط إقرار الموازنة للعامين المقبلين بانتخابات طال انتظارها من قبل الجميع وحث جلالة الملك القوى الوطنية المختلفة على المشاركة قائلا إن ذلك سيكون يوما سعيدا له وللمواطنين.
ويراودنا هنا سؤال: هل هو حقا هاجس أو خوف حكومي من المجلس النيابي القادم؟ إذ تقر السلطة التنفيذية منذ الآن انه ليس من الممكن التعامل معه من قبل الحكومة، أي أن الحكومة تطرح عدم ثقتها في مجلس لم ينتخب بعد، وهل يمثل ذلك عدم ثقة الحكومة في الشعب الذي هو مصدر السلطات جميعها، وهل هي رسالة إلى المواطنين أن الحكومة لا تثق في اختياراتهم؟ وأن من سيختارون في انتخابات حرة ونزيهة لا تعتبرهم الحكومة ممثلي الشعب، نرجو أن يكون الجواب بالنفي ولكن إذا حدث وأصرت الحكومة على هذا الخيار فإن ذلك يعني أن الحكومة لا تثق في حق المواطن بممارسة حقوقه السياسية ولا تكترث بالمواد الدستورية والقانونية التي تؤكد بل تكفل هذه الحقوق.
وفي محور آخر ينص الدستور في المادة 109/ب على «تعد الحكومة مشروع قانون الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها وتقدمه إلى مجلس النواب قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل» ونعلم أن السنة المالية للدولة تبدأ من يناير/كانون الثاني وتنتهي في ديسمبر ويكون تقديم مشروع قانون الموازنة إلى مجلس النواب في موعد لا يتأخر عن أكتوبر/تشرين الأول وبما أن دور الانعقاد للسلطة التشريعية يبدأ في ثاني سبت من شهر أكتوبر بحسب المادة 71 من الدستور فإن تقديم الموازنة يصادف بداية دور الانعقاد الذي لا يقل عن سبعة شهور بحسب المادة 72 من الدستور وهذه المواعيد تعطي السلطة التشريعية سبعة شهور على الأقل لمناقشة وإقرار الموازنة بحسب المادة 109 من الدستور ولكن في حالة عدم تمكنها - السلطة التشريعية - من الانتهاء من مناقشة وإقرار الموازنة في نهاية موعد دور الانعقاد، فإن المجلس لا ينفض، ولذلك فإن إدراك أعضاء السلطة التشريعية عواقب عدم الانتهاء من الموازنة في موعدها ربما يجعلهم يقبلون ما يترتب من تبعات، أن تقديم الموازنة إلى المجلس في نهاية دور الانعقاد، بل من الممكن أن يفهم كابتزاز سياسي تعاقب به السلطة التشريعية من قبل التنفيذية في أي وقت تريد فيه الانتقام من النواب، وهذا التقديم سيخلق عرفاً وسابقة برلمانية مفادها أن السلطة التنفيذية تتحكم في العمل التشريعي من خلال هذا الابتزاز السياسي وإن كنا لا نظن أن هذا هو التوجه السائد لدى الحكومة بل نأمل إنه بالون اختبار ليس إلا لجس النبض وليس آلية قابلة للتنفيذ.
وفي حال تقدمت الحكومة فعلاً بمشروع قانون الموازنة إلى مجلس النواب الحالي فإننا نرى أنه ليس فيه إشكالات دستورية فحسب، بل نسف لمبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور ونظام الحكم في البحرين بأكمله إذ تنص المادة 32/أ من الدستور على «يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع تعاونها وفقا لأحكام هذا الدستور» وأن تقديم الموازنة ينفي التعاون بين السلطة التنفيذية والتشريعية إذ السلطة التنفيذية تقول مقدما إنها لا تثق في السلطة التشريعية التي سينتخبها المواطنون وهذا يمكن أن يؤدي إلى صدامات واحتقانات الذي وُضع نظام المجلسين لتلافيها. إذ جاء في المذكرة التفسيرية للدستور عن أسباب الأخذ بنظام المجلسين «إن هذا النظام - أي نظام المجلسين - يقلل من الاصطدام الذي يمكن أن يحدث بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والذي قد يؤدي إلى وسائل تتسم بالعنف السياسي» وإذ إنه لا يجوز لأي من السلطات الثلاث التنازل لغيرها عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها» فإن تقديم الموازنة في هذا الوقت بالذات هو سلب اختصاصات المجلس التشريعي وأعضائه وكذلك للحكومة القادمة وأعضائها، وإذ إن مفهوم الموازنة كما جاء في المذكرة التفسيرية تحت بند الشئون المالية جاء «بالوظيفة المالية التي هي السبب التاريخي لنشأة النظام النيابي» وإذ إن المادة 109 تجعل إقرار الموازنة بالتوافق بين الحكومة والنواب فإن تقديمها الآن سيحرم السلطة التشريعية والتنفيذية القادمتين من حقهما الدستوري، لأن تشكيل مجلس الوزراء الجديد يأتي بعد كل فصل تشريعي من لدن جلالة الملك وأن إقرار موازنة 2007 - 2008 سيحرم الوزراء الجدد من حقهم في رسم السياسة العامة للحكومة ويجعلهم مسئولين ومحاسبين أمام الملك وأمام النواب في سياسة لم يضعوها. وبما أن الدستور ينص على أن «تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى المجلس الوطني» فأي برنامج هذا الذي ستقدمه الحكومة الجديدة المقبلة إلى السلطة التشريعية القادمة؟ إذ من المعلوم أن البرنامج الحكومي هو السياسة العامة للدولة، وكما وجه جلالته فإن على كل وزارة وليس الحكومة بمجملها فقط أن تتقدم ببرنامجها ومشاريعها إلى السلطة التشريعية. لذلك يبرز سؤال وهو كيف يقدم الوزير الجديد برنامج وزارته الجديد بموازنة سبق وأن أقرها المجلس السابق. علماً أن تعديل أي بند في الموازنة المقرة يتطلب إعادته إلى السلطة التشريعية لإقراره
العدد 1327 - الإثنين 24 أبريل 2006م الموافق 25 ربيع الاول 1427هـ