في ندوة «مقاربات العدالة الانتقالية في البحرين»، طرحت بتكرار إحدى الطرق المتحضرة التي واجهت بها بعض المجتمعات إرثها المتراكم من انتهاكات حقوق الإنسان، ونجحت بذلك في الانتقال من عهد سياسة «القطيع» إلى عهد سيادة «الإنسان».
العالم العربي والإسلامي الذي ينام على إرث نظري متقدم في مجال احترام الإنسان، هو آخر من دخل ميدان «العدالة الانتقالية». فقد سبقتنا دول من مختلف قارات الأرض، من بيرو والأرجنتين وتشيلي غربا، إلى اليونان وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا شمالا، إلى غانا وجنوب إفريقيا... ولم تصلنا تباشير صحوة الضمير هذه إلا متأخرة في المغرب، الذي احتاج إلى رحيل ملك قضى في الحكم ثمانية وثلاثين عاما، ومجيء ملك شاب حتى يتغير مجرى النهر في اتجاه العدالة والإنصاف والمصالحة الوطنية.
العالم اليوم غرف مفتوحة على بعضها، وما يجري من قمع للمتظاهرين في أعلى بلد منعزل ومعلق في جبال الهملايا (النيبال)، يشاهده كل العالم بالصوت والصورة يوميا ويتعاطف مع قضيتهم. وهكذا تشاهد الشعوب والحكومات وتتعلم من تجارب بعضها بعضا. و«العدالة الانتقالية» هي إحدى أهم دروس وهدايا القرن الماضي للقرن الجديد، ويمكن أن تفيدنا نحن في البحرين لتجاوز آلام ومخاض هذه المرحلة الانتقالية. فمهما طال الوقت وطال التجاهل الحكومي، لابد من علاج لهذا الجرح النازف.
الخبراء الدوليون، عربا وأجانب، الذين تحدثوا في الندوة، كرروا كثيرا أن الخطوة الأولى هو الاعتراف بوجود مشكلة، وكلنا يعرف حجم هذه المشكلة، ومن مصلحة البلد، والحكومة هنا هي المعنية الأولى بالأمر، أن نعترف بوجودها، وبالتالي التفكير في معالجة آثارها. الخبراء (الأميركي جو ستورك، المغربي إدريس اليازمي، المصري هاني مجلي) حضروا لتداول أفكار واستعراض تجارب، ولم يدعوا أن هناك حلا مثاليا ونهائيا، أو تجربة مضمونة النجاح مئة بالمئة، وكرروا بتواضع جم «أن الحل بأيديكم أيها البحرينيون».
المجتمع المدني الذي مثله عدد من الجهات (اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب، مركز البحرين لحقوق الإنسان، جمعية شباب البحرين لحقوق الإنسان، الجمعية البحرينية للحريات ودعم الديمقراطية)، إضافة إلى ممثلين من جمعيات سياسية أخرى ونواب برلمانيين، كان لديهم أمل بامكان الالتقاء في منتصف الطريق مع الحكومة، لطي صفحة الماضي، وهم يمدون أيديهم للوصول إلى حل مقبول من الأطراف المتضررة من مختلف التيارات السياسية، طوال ثلاثين عاما من فرض «قانون أمن الدولة». فهؤلاء يتوزعون ما بين عوائل عشرات الشهداء الذين مضوا إلى ربهم، وآلاف المعتقلين الذين تعرضوا لفظائع التعذيب وانتهكت أبسط حقوقهم الآدمية داخل المعتقلات، وصلت أحيانا إلى حرمانهم من الماء والطعام في عز شهور الصيف.
الملف مثقل بآلام آلاف المواطنين إذن، ويتضاعف العدد إذا أضفنا المنفيين الذين عانوا الغربة جراء «أمن الدولة»، إضافة لما عاناه آلاف آخرون من أضرار، جراء منعهم من الدراسة أو العمل، ليس في القطاع العام فحسب بل وملاحقتهم في الشركات الخاصة لقطع أرزاقهم.
الملف مثقلٌ بالمعاناة الإنسانية، ولا يحتمل المماطلة أكثر مما حدث، وهو يحتاج إلى «صحوة ضمير»، وقرارٍ سياسيٍّ شجاع، ينقل البلد إلى مرحلة أخرى ليس لتضميد جراح الماضي فحسب، بل للتأسيس لعهد جديد يكون من أكبر إنجازاته احترام حقوق الإنسان... فلقد آن الوقت لتضميد الجراح النازفات
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1327 - الإثنين 24 أبريل 2006م الموافق 25 ربيع الاول 1427هـ