في مجتمعاتنا العربية مألوف ومقبول أن يرحب الشخص بضيوفه ومن يلقاهم في طريقه أجمل الترحيب وأحسنه، ثم وبعد أن ينصرفوا ويخلوا المكان إلا من الخواص، يبدأ الشخص بالتعبير عن آرائه مع أولاده وخواص أصدقائه وأصحابه، ورأيه هنا قد يناقض تماماً كل ما سبق من مجاملات وترحيبات وملاطفات. انه الوجه الآخر، والرأي الحقيقي والصريح للرجل في من لقيهم واستضافهم، لكنه رأي خاص لا يظهر ولا يبرز إلى من يهمه الأمر مباشرة، والسبب أنه يخاف من العقاب وردود الفعل وقطع الصلات، ولأن السائد هو أن لا يبدي الإنسان ما في داخله خوفاً ورهبة، أصبح إمكان التعاون في مجتمعاتنا قليل وشبه منعدم، لأن ظاهر العلاقات وإن اكتسى المتانة والقوة، فإن الواقع يكشف وهناً وضعفاً محزناً في النسيج والبنيان الداخلي.
هذا النوع من العلاقات يبدو سائداً بين غالبية المجتمعات العربية وحكوماتها القائمة، يحدثنا عن ذلك المستعرب الياباني (نوبوأيكي نوتوهارا) الذي درس العربية قبل أكثر من أربعين عاماً في جامعة طوكيو، ثم زار عدداً من الدول العربية وخالط أهلها ومنها مصر وسورية والمغرب واليمن، يحدثنا في كتابه الجميل «العرب وجهة نظر يابانية» بقوله: «إن الفلاحين لا يحبون الشرطة، وهذا أمر مفهوم، ولكن ما هو غير مفهوم هو الاحترام الكاذب الذي يظهره أولئك الفلاحون لرجال الشرطة، والكرم الباذخ في المآدب التي يقيمونها لهم». وإذا كان لي تعليق على ما ذكره فهو أن ما هو غير مفهوم عنده مفهوم لدى الشعوب العربية بشكل كامل، ومدرك تمام الإدراك، ذلك أن العلاقة بين كثير من الدول وشعوبها ليست قائمة على الاستئناس بآرائها، ولا مبنية على تبادل الرأي بين الجهة العليا صاحبة القرار ورعاياها الذين تنعكس عليهم القرارات بسلبها وإيجابها، بل هي علاقة تعتمد على طرفين قاهر ومقهور، قوي وضعيف، آمر وعبد، متسلط ومستضعف، وطبيعة هذه العلاقات أنها تورث نفاقاً ومجتمعاً ذا صورتين وصوتين، الأول هو الصوت والصورة التي يبرزهما المجتمع للعلن لكسب الرضا وخوفا من السخط، والثاني هو الصوت والصورة التي تتحرك في الأروقة والأوساط الداخلية للمجتمع حيث يكون الأمر أكثر أمانا وأقل مخاطرة.
إن المشكلة في هذا النوع من التأقلم الاجتماعي والشعبي بين الموقف العام والمعلن وبين ما يدور خلف الكواليس والزواريب الضيقة تكمن في استعذاب ذلك التأقلم وتمدده إلى كل حالات القوة والضعف، وبين كل شكلين يمتلك أحدهما سلطة قاهرة في حين يفتقد الآخر ما يوازيها في المقاومة والمقارعة، خذ مثلا على ذلك الحال الدينية التي تمتلك سلطة الدين وتتحرك باسمه وقوته وهيمنته، لقد طردت في الكثير من حالاتها ومواقعها ولا أعمم هنا، الكثير من المثقفين والمفكرين، فأصبحت آراؤهم التي كانوا يعرضونها في العلن، ويجهرون بها أمام الناس، تدور في السر وتتحرك همسا في استتار وخفاء تامين.
والأمرّ من ذلك في الحال الدينية أن تعامل المجتمع معها بوجهين أصبح شائعا يستعصي على التكذيب والإنكار، ولعل غالبيتنا قادته أيامه ولياليه إلى بعض المجالس والديوانيات التي يتسامر فيها الأخلاء والأصدقاء، وسمع منهم نقدا لاذعا لخطيب الجمعة أو الواعظ في مناسبة ما، بعد أن صافحوه وشدوا على يده وأطروه بعبارات المدح والثناء (أحسنت جزاك الله خيرا كثر الله من أمثالك)، ثم ها هم يستخفون رأيه ويسفهون فهمه وينهشون لحمه من دون رحمة. ترى لماذا يحصل ذلك؟
والجواب لأن الله أمر الدعاة والموجهين بما أمر به رسوله الكريم في قوله تعالى «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر»، لكن لسوء الحظ أصبحت الممارسة اليوم (فسيطر أنما أنت مسيطر لست إليهم بمذكر)، وحين أخفنا الناس بهذه السيطرة المتمثلة في إخراج المعترض علينا وصاحب الرأي الآخر من الدين والملة، وحجزنا له مقعداً في النار، أو لوحنا له بفتوى تحرقه وتحرق عمله وتسود أيامه وتطرد سواد الأمة عنه في مقاطعة لا هوادة فيها ولا رحمة، حين فعلنا ذلك كله، فإننا شرعنا الطريق الآخر ودفعنا الناس إليه. لقد أعجبنا القبول في العلن وأراحنا الرضا أمام الملأ، وأمتعنا التقديس المطلق أمام الأعين، ولكن خسرنا رضا القلوب، وقبول العقول.
أعود إلى مقطع جميل من كتاب العرب وجهة نظر يابانية، إذ يقول كاتبه: «كنت أجلس في بيت العمدة في ريف مصر، وكنا نرى الشارع مباشرة، ولقد شاهدت يومها طفلا يلف خيطا على عنق عصفور صغير ويجره وراءه، والعصفور يرفرف على التراب، كان الطفل وكأنه يجر حمارا أو كلبا، وكان الناس يمرون بجانب الطفل دون أن يقولوا له شيئا، إذاً كان المنظر طبيعيا بالنسبة لهم، طفل يتسلى بلعبة! لقد فهمت الأمر وما شابهه على النحو الآتي: ضعيف تحت سيطرة قوي، والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي، ويرضخون له، وبالنسبة لي فأني أتساءل: إذا سمح المجتمع بهذا المنظر فإلى أين سيصل؟
والجواب ليس خفيا، فما دامت وسيلة التطويع المتبعة في المجتمع هي القوة، فإن ظاهر المجتمع سيكون خلاف باطنه
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1326 - الأحد 23 أبريل 2006م الموافق 24 ربيع الاول 1427هـ