المواجهات الكلامية التي أدت إلى تصعيد سياسي بين «حماس» و«فتح» في الضفة الغربية وقطاع غزة تثير موجة مخاوف من احتمال انتقال الخلاف في وجهات النظر على إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى انقسام داخلي يقوض كل تلك الإنجازات التي حققتها حركة التحرر الفلسطينية في العقود الأخيرة.
هذه المخاوف تثير سؤالاً بشأن ما اتفق على تسميته «الاستثناء» الفلسطيني. هذا «الاستثناء» الفلسطيني تميز بقدرته الخاصة على تجاوز التناقضات السياسية والأهلية وتطويع الاختلافات والسيطرة عليها حتى لا يتحول الجدل الداخلي إلى نقطة تصادم بين الفصائل.
«الاستثناء» له علاقة بخصوصية القضية الفلسطينية. وهي خصوصية لا مثيل لها في مجمل القضايا نظراً لكون حركة التحرر تقود مجموعة من الكتل الاجتماعية توحدت تحت سقف واحد هو العودة إلى الأرض وبناء دولة عادلة.
كل حركات التحرر في العالم انطلقت من أرضها. واعتمدت حركات التحرر على سياسات مختلفة من الكفاح المسلح إلى العصيان المدني وكانت في مجموعها تضع في برنامجها سُلم أولويات يبدأ أولاً بالكفاح ضد الاستعمار والامبريالية (الاحتلال الأجنبي) وينتهي أخيراً في اسقاط القوى المحلية المتعاملة معه وبناء دولة وطنية تقودها سلطة من أبناء البلد.
هذه القاعدة نجدها في مختلف أنواع حركات التحرر في كوبا والجزائر والصين وفيتنام والكثير من بلدان العالم الثالث (آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية). فكل تلك الحركات على اختلاف ايديولوجياتها واحزابها اعتمدت استراتيجيات متقاربة. حتى تلك الانتفاضات المدنية والاعتصامات التي شهدتها إفريقيا في الخمسينات والستينات وصولاً إلى تسعينات القرن الماضي اعتمدت سلسلة تكتيكات متشابهة.
أحياناً كانت تختلف الأولويات بين حركة تحرر وأخرى كما كان أمر روديسيا (زيمبابوي حالياً) وجنوب إفريقيا وناممبيا. فهذه البلدان كانت تعاني من أنظمة تعتمد التفرقة العنصرية والتمييز العرقي بين الأوروبي (الأبيض) والإفريقي (الأسود) الأمر الذي أعطى شعار مقاومة التفرقة والتمييز أولوية سياسية على ما تبقى من مهمات نضالية.
كل حركات التحرر في التاريخ المعاصر توافقت على مبادئ مشتركة واعتمدت استراتيجيات متشابهة نظراً إلى تشابه المهمات التي وحدت الجميع على قواعد متطابقة في مشكلاتها وأولوياتها، حتى تلك الحركات التي نهضت على مقاومة التفرقة أو التمييز العنصري بين أقلية بيضاء (أوروبية) وأكثرية سوداء (إفريقية).
فلسطين كانت الاستثناء عن هذه القاعدة العالمية. والاستثناء الفلسطيني يعود إلى كون هذه القضية مختلفة عن مجموع القضايا الوطنية والتحررية في العالم. فالشعب الفلسطيني لا يعاني من احتلال فقط كما هو حال شعوب العالم الثالث بل يعاني من احتلال واستيطان. والشعب الفلسطيني لا يعاني من تفرقة عنصرية وتمييز عرقي فقط بل يعاني من تفرقة وتمييز واقتلاع وطرد من الوطن. والشعب الفلسطيني لا يعاني من نظام متخلف يتعامل مع الاحتلال الأجنبي لحماية مصالحه وامتيازاته وانما يعاني من نزوح عن وطنه والعيش في مخيمات بعيدة عن أرضه. وأيضاً الشعب الفلسطيني لم يؤسس دولته ونظامه وسلطته ليطالب باسقاطها أو تعديلها أو تغييرها كما هو شأن حركات التحرر في العالم وانما كان يعاني من عدم وجود دولة ونظام وسلطة بسبب اختلاف ظروفه واضطراره للعيش في ظل أنظمة عربية مجاورة لأرضه المحتلة. القضية الفلسطينية كانت في جوهرها الإنساني خاصة ومختلفة في شروطها السياسية والتاريخية عن كل قضايا التحرر. فهي لم تحصل بسبب احتلال أو تمييز أو «أقلية» تتحكم بمصير أكثرية وانما كانت إلى كل ذلك ناتجة عن الاقتلاع والطرد لكل الشعب في مختلف طبقاته وفئاته.
هذا الاستثناء الفلسطيني وحد كل فروع الشعب وأسس حركة تحرر موحدة في أهدافها على رغم اختلاف ايديولوجيات الفصائل. فالاستثناء أسهم في تكوين كتلة سياسية ضمت كل طبقات الشعب على مختلف مناطقهم وطوائفهم وعائلاتهم ومصالحهم.
الشعب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها تحول تقليدياً إلى كتلة واحدة كان من الصعب اختراقها أو تقسيمها مذهبيا أو مصلحياً نظراً إلى كون قضيته تتميز عن غيرها من مهمات درجت عليها حركات التحرر في العالم. فالكفاح الفلسطيني كان من داخل الأرض وخارجها، والمقاومة الفلسطينية دمجت كل المراحل في مرحلة واحدة وتلخصت المهمات كلها في برنامج مشترك يقوم على فكرة العودة وإقامة دولة عادلة.
هذا الاستثناء الفلسطيني عطل كل إمكانات الاختراق الأهلي ومنع احتمالات تحول الانقسامات السياسية إلى تناحرات دموية بين الفصائل. حتى حين كانت تتدخل الأنظمة العربية لاحداث الفتن نجحت الفصائل في تكييف شعاراتها وضبطها تحت سقف الوحدة الوطنية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1326 - الأحد 23 أبريل 2006م الموافق 24 ربيع الاول 1427هـ