اللبنانيون ينتظرون «المجهول». وتحت سقف الانتظار تكمن سلسلة مخاوف تعبر عن قلق من حصول «شيء ما». البعض يتحدث عن احتمال عودة موجة الاغتيالات. وهذا يعني عودة التوتر إلى العلاقات الأهلية التي هي أصلاً على قاب قوسين من التفكك. والبعض يتحدث عن صفقة إقليمية تعود بالوضع اللبناني إلى تلك الحال التي كان عليها في العام 1976. والبعض يتحدث عن احتمال ضربة عسكرية إسرائيلية توتر الحياة السياسية وتدفعها نحو التصادم الداخلي. وهناك من يتوقع حصول مواجهة أميركية - إيرانية تقلب الطاولة وتعدل موازين القوى وتحدث متغيرات إقليمية ليست بعيدة عن صورة «النموذج» القائم الآن في العراق.
مقابل هذا البعض، هناك بعض آخر. والآخر تقوم تحليلاته على نفي تلك المخاوف. فهذا الآخر يستبعد تجدد موجة الاغتيالات في اعتبار أن ظروف التحقيق التي باشرها القاضي الألماني ديتليف ميليس تغيرت ولم تعد التوجهات المرسومة قائمة كما كانت عليه الحال حين وقعت جريمة الاغتيال. وهذا البعض الآخر يستبعد أيضاً إمكان عودة عقارب الزمن إلى الوراء وتكرار المشهد اللبناني - الإقليمي الذي حصل في العام 1976. وفي رأي هذا الفريق أن المتغيرات الدولية تمنع عودة لبنان إلى ساحة إقليمية تتنازع عليها دمشق وتل أبيب. فالولايات المتحدة أصبحت في إطار اللعبة ولم تعد قوة تحرك المشاهد عن بُعد بل باتت من أطراف اللعبة وتقوم بدور مباشر في تحريك الصور.
هذا البعض المقابل يعتمد سياسة النفي ويكتفي برفض تلك التحليلات انطلاقاً من نزعة تمزج الاحساس بالاطمئنان بقراءة تلامس الواقع وموازين قواه. مثلاً، يرفض هذا الفريق القبول بفكرة احتمال أن توجه «إسرائيل» ضربة جوية عسكرية انطلاقاً من اعتبارات متناقضة، منها أن الولايات المتحدة لا تريد فتح جبهة جديدة في المنطقة، وكذلك أن واشنطن تراهن على لبنان ولا تريد التفريط به بعد فشل نموذجها في العراق. وتنتهي سلسلة الاعتبارات إلى تكرار القول إن «توازن الرعب» الذي حصل في العام 2000 أسس ما يشبه «السلم البارد»، وبالتالي فإن مصلحة تل أبيب عدم التلاعب بمسألة الحدود حتى لا ينقلب «السلم» إلى «حرب باردة» وربما ساخنة.
وفي السياق نفسه، يقرأ هذا البعض مسألة التوتر البارد/ الساخن بين طهران وواشنطن. فهذا الفريق يرفض قبول نظرية حصول مواجهة أميركية - إيرانية انطلاقاً من اعتبارات متناقضة كما هو حال تناقضات استبعاد حصول مواجهة لبنانية - إسرائيلية. فهو يرى أن أميركا في وضع صعب ولذلك تلجأ إلى الضغط النفسي والتهويل. فأميركا في رأي هذا البعض لا تستطيع أن تغامر بوجودها العسكري في العراق والتضحية بمكتسباتها السياسية التي حققتها من أجل تمرير مشروع يلاقي الاعتراض الدولي وعدم الموافقة الإقليمية عليه. كذلك يرى أن المواجهة الأميركية - الإيرانية في حال حصلت لن تكون سهلة وستكون كلفتها الاقتصادية أعلى بكثير من كل التوقعات أو الحسابات الرقمية. وبناء على هذا التحليل، يبني هذا الفريق حساباته على أن الوضع العام سيستمر كما هو عليه من دون حصول انقلابات كبيرة في التوازن الذي استقرت عليه المنطقة بعد احتلال بغداد في العام 2003.
يضاف إلى «هذا البعض» و«البعض المقابل» عشرات التحليلات التي تخضع لقراءات لبنانية لا حصر لها وهي في مجموعها تشبه تلك الغابة السياسية التي تحتاج إلى تنسيق وترتيب للسيطرة على الفوضى التي تجتاحها من مخارجها ومداخلها. فالكل متخوف والكل ينتظر والكل يعلم أن المشكلات اللبنانية ليست لبنانية بالكامل وبالتالي فإن مفاتيح الحلول ليست في الأراضي اللبنانية.
وبسبب هذه المعضلة يمكن فهم أو تفسير تعاظم الهواجس واستمرار القلق ونمو حالات توتر غير مفهومة. وحين تتحول المشكلات السياسية إلى حواجز تمنع التفاهم بين الطوائف والمذاهب والمناطق ترتفع نسبة المراهنات والتوقعات ويصبح الانتظار وسيلة لتغطية فشل أو طريقة لكسب وقت. فمن يراهن على متغيرات دولية وإقليمية يرى أن هناك إمكانات للسيطرة على المشكلات الداخلية من خلال الاعتماد على قوة خارجية. ومن يرى أن التوازن الدولي الإقليمي قد استقر وليس هناك من حاجة إلى تغييره أو زعزعته يراهن على أن إمكانات تسوية المشكلات اللبنانية الداخلية قابلة للحل ضمن منظار لا يختلف كثيراً في وقائعه الجارية عن تلك التوافقات التي حصلت مراراً في العقود الماضية.
حتى الآن الصورة غير واضحة. وبسبب هذا الغموض بين بعض يقابله بعض آخر استقر اللبنانيون على قاعدة القلق النفسي والخوف من مجهول لابد أنه سيظهر في القريب العاجل. وحتى يأتي الوقت ويظهر لابد من الانتظار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1325 - السبت 22 أبريل 2006م الموافق 23 ربيع الاول 1427هـ