«الحرب بالبيت The War At Home» فيلم سينمائي أنتج في 1996، وشاهدته حديثاً على إحدى شاشات قناة عرض الأفلام الأجنبية. مجرياته واقعية وتدور عن أسرة أميركية تحطمها المعاناة مع ابنها المحارب العائد من فيتنام، وما يزيد من عدم تواصل الابن وتفاهمه مع أفراد أسرته، العزلة والانطواء الذي يعيشه إثر تداعي إفرازات تلك الحرب عليه. فقصة الفيلم نموذج فاقع لمعاناة غالبية الجنود الأميركيين العائدين على وقع الهزيمة إلى ديارهم ومع أفراد عائلاتهم وعدم قدرتهم على التكيف للعيش ثانية باطمئنان في المجتمع الأميركي. في الحرب الأميركية على فيتنام دلالات وشحنات تعبيرية تحمل في مضمونها عقداً نفسية وروحية للمواطن الأميركي تبرز في سلوكياته الحاضرة تجاه الآخرين وربما حتى المستقبلية منها، فمن رحم الهزيمة توالدت السياسيات الخارجية الأميركية القائمة على الرعونة التي فرضت على شعوب العالم للامتثال لفلسفتها وحرية تصرفها الأحادي بمصير الأمم والشعوب، فضلاً عن تسخير ثرواتهم لنخبتها الجشعة التي لا تشبع. وتيار المحافظين الجدد طبعاً راكم الدراسة والخبرة التآمرية منذ سنوات الحرب الباردة ودس سم الخوف في نفوس الشعب الأميركي ودفعهم للعيش على وقع وهم الإرهاب والخوف من عدو متخف، يحركهم في ذلك رغبة محمومة في الغزو والاحتلال ووازع الاحتكار والسيطرة على المصالح الاقتصادية والثروات من مصادر الطاقة «وروائح المال والنفط»، لهذا وذاك، أنشئت الجيوش السرية وخصصت شركات الأمن والعسكرة وشيدت السجون والأقبية السرية المنتشرة في دول شرق أوروبا والعالم الثالث، فكلها في الختام، آليات تجهد وتشتغل بموازاة مع آلية التخويف والترهيب.
لعبة إعلامية جديدة
الوسائل الإعلامية تناولت حرب فيتنام آنذاك باستفاضة، فأظهرت الفضائح والفضائع، ما دفع آلة الإعلام الأميركي الحالية الاستفادة من أخطائها والدخول في لعبة جديدة، ألا وهي لعبة إخفاء الحقائق وتزويرها، بث المسموح منها ومنع الممنوع. فأخبار العراق المحتل مثلا تبث من بيانات إخبارية مقتضبة تتضمن اختطافاً لجنود واختفاء لطائرات عسكرية بطياريها، وعدداً محدوداً من الموتى، ولا تفاصيل تذكر عن الحوادث، إنما يتم الاكتفاء بالقول إنها إصابات ناتجة عن معركة أو حادث. (صحيفة «الوقت» ص 11، 3 ابريل/ نيسان 2006). وهذا قطعاً لا يجدي في مجتمعات تسوق نفسها للشعوب الأخرى كنموذج لممارسة الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، إذ لا يمكن إخفاء أخبار التدمير ومئات الجرحى وعشرات القتلى الذين يتساقطون يوميا من الشعب الفلسطيني والعراقي، ذاك الذي تتسبب به طلقات رصاص طائش أو متعمد، أو هجوم صاروخي موجه، أو ابتزاز رخيص على القوت تمارسه الديناصورات الإمبراطورية. فالحرب هي الحرب والتدمير لمظاهر الحياة والسلام. و«الحرب بالبيت» يستنهض المشاهد لكي يستحضر حوادث الواقع ويقارن ما إذا كان خطاب الإدارة الأميركية منذ الحرب الفيتنامية وحتى الآن ما برح يعاد إنتاجه بسمات الجنون والتوحش والنرجسية والغرور ذاتها أم لا؟.
تضخم الذات والوهم
بطولة الفيلم «لمارتن شين»، في دور الأب، و«إميلو استيفيز» الابن، و«لكمبرلي وليمس» في دور الزوجة و«كاثي باتس» في دور الابنة، والجميع من خلال الأداء يميطون اللثام عن مفارقة كذب الخطاب الذي يسوغ الحرب للشباب ويدفعهم ليكونوا نارها ووقودها، فيضخم لديهم الذات والوهم لنصرة الحق الأميركي، والقيم الديمقراطية وضرورة تعليمها للشعوب الهمجية المتخلفة التي لا تعي مصالحها. فالأب في الفيلم يتماهى مع الخطاب ويتبنى مبررات الحرب كما لو كانت مبرراته الشخصية، فيقنع ابنه الوحيد اليانع بالذهاب إلى الحرب. تعيش الأسرة في غياب ابنها الجندي فترة من زمن القلق والخوف من فقدانه أو عودته معوقاً أو محملاً في نعش ملفوف بالعلم الأميركي، فيصبح جل دعائها وأملها بأن يعود سالماً. وعند عودته ما يلبث أن يكتشف مع الوقت فقدانه لذاته ولإحساس أصابعه التي كانت تنقر برشاقة على آلة البيانو التي عشقها قبل ذهابه للقتال، وحرص أمه على تعليمه العزف على حساب مصروف العائلة، يغيب عنه الشعور بالمتعة في وسط الآخرين، فهو غريب وكل ما حوله ليس بذي أهمية، المهم، التمحور حول الذات للخلاص من الكوابيس والأمان النفسي. ينعدم احترامه لأفراد أسرته، وينقطع التواصل معهم وتزداد غربته التي تنخر في جسده وعقله، إنه حاضر وغائب وسط هرج ومرج الأسرة اليومي الذي يتفاقم لديها التوتر والشجار والزعيق لأتفه الأسباب، فلا أحد يتحمل الآخر ولا يحترمه لا أحد ينام أو يأكل بصورة طبيعية. لما لا، والمشهد من الواقع يؤكده حال لسان الجندي الهارب من الجيش الأميركي في العراق «جوشو كي»، الذي يتحدث أمام لجنة اللجوء في «تورنتو بكندا» قائلاً: «فررت من الخدمة بسبب الفضائع التي شهدتها على يد عناصر الجيش الأميركي في العراق، اعتقدت أن هناك أسلحة دمار شامل تهدد بلادي وعائلتي. إن تصرف الجيش الأميركي في العراق كان يستند على قاعدة، اطلق النار واطرح الأسئلة لاحقاً، لقد شاهدت جنوداً يركلون رأس قتيل عراقي منفصل عن جثته مثل كرة قدم، وعندما عدت في إجازتي إلى الولايات المتحدة لمدة أسبوعين، لاحقتني الكوابيس وعانيت من اضطراب نفسي ولم أعد إلى الخدمة من حينها. إن الولايات المتحدة هي العدو، والحرب على العراق كانت للسيطرة على النفط... (صحيفة «الوقت» ص 14، 2 ابريل 2006) إذا كان هذا الاعتراف يتقارب مع مضمون الفيلم ويعبر بصدق عن حال كل أسرة أميركية يذهب أبناؤها للقتال لنصرة أميركا، فعلينا منذ اليوم تقدير حجم المأساة التي يخلفها بوش ورجالاته عند شعبهم.
الأميركية التقليدية ست البيت العصرية
يحرص مخرج الفيلم على إظهار نموذج الأم الأميركية التقليدية «ست البيت العصرية» التي تهتم ببيتها وأسرتها وتجيد الإعداد للمناسبات وطهي الطعام وتقديمه لأسرتها، فضلاً عن القيام على خدمتهم وتلبية حاجاتهم والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بشئونهم، تفعل كل ذلك بحرص شديد للمحافظة على الأسرة ومظهرها أمام الآخرين ككيان متماسك، لا ينقصه المال ولا الخبرة ولا الصبر والقدرة على الحياة بصورة عصرية تتجاوز حدة الألم والمعاناة، حتى وإن تمردت الابنة وأعلنت عدم فهمها لسلوك والديها وتصرفاتهم المتناقضة معها ومع أخيها. الأم من طرفها تعامل «ابنها الجندي» الذي قتل الفيتناميين كما لو كان طفلاً بريئاً بحاجة لتذكيره بمواعيد وجبات الأكل وتغيير الملابس. على الرغم من هذه المظاهر، فثمة ما يدفع بأحوال الأسرة للانقلاب والانفلاش بسبب الكذب وسلوكيات الابن المضطربة التي تسببت بأزمة حقيقة حطمت أركان الأسرة وهدمت تماسكها المزيف، فهو ما برح يعيش متوحداً مع أصوات الصواريخ والدبدبات، وقرقعة القصف المستمر في أذنيه، تفزعه نبرة قائد الكتيبة الآمرة بقتل الفيتنامي المتخفي في الحفرة كالجرد خوفاً، ليس لذنب ارتكبه سوى وجوده في المكان الذي وجد فيه الجنود. كل ذلك يدفع «الجندي المهزوم» لارتداء البزة العسكرية بنياشينها اللامعة، وتحسس بندقيته من حين إلى آخر، لأنه لا يقو عن التوقف في التفكير بزملائه الجنود الذين فقدهم ولحظات الفزع التي مر بها، فأفراد أسرته لا يعيون ولا يدركون هول الوضع النفسي الذي يمر به وآثار الحرب عليه، حتى صار قاب قوسين أو أدني من تنفيذ عملية القتل المتعمد بأبيه وأمه وأخته انتقاما لمعاناته ولما تعرض له من كذب وزيف وما تركته من جروح نفسية غائرة لا تندمل، لاسيما وهو يكتشف أن الحرب ما هي إلا الوهم الأعظم والخديعة الكبرى.
خلاصة القول، هل حاد المواطن الأميركي الخمسيني عن قول الصدق حينما اعترض خطاب بوش في ولاية «كارولينا الشمالية» في 7 أبريل قائلاً له بهدوء: «يجدر بك أن تخجل من نفسك. لم أشعر في حياتي بالخجل والخوف الذي أشعر به اليوم من قيادتي في واشنطن بما فيها الرئاسة ومجلس الشيوخ، يهيأ لي أنه على رغم خطابك فإن ذلك التعاطف والمنطق «اللذين تتكلم عنهما» اسقطا خلال ولايتك وآمل أن تتحلى من وقت لآخر بالتواضع والفضيلة لكي تخجل من نفسك في أعماقك... («أخبار الخليج» 8 ابريل 2006).
نسأل ثانية: هل جانب طرحه التعقل والصواب؟
الجواب: قطعاً لا! ففي سخطه وغضبه ما يعبر عن صورة واقعية لمشاعر الاشمئزاز والخوف والهلع الذي يعيشه الأميركي، أما بسبب اجتزاء حرياته والتعدي عليها بالتصنت ومن دون تفويض قضائي، أو بسبب النعوش والأكياس السوداء العائدة سراً بالطائرات يومياً من العراق وأفغانستان. إنه لمشهد معبر عن التضليل، بدءاً من المساندة اللامحدودة للعدو الصهيوني لقتل الشعب الفلسطيني الأعزل، مروراً بالغزوات اللاحضارية وإنسانية وأخلاقية على الشعوب وصولاً إلى تهديداتها، ومسوغات عدم الانسحاب من العراق والاعتراف بالخطأ والفوضى التي خلقتها الأخطاء الاستراتيجية. أمعقول أن يفصح الفيلم عن كل ذلك الخداع والوهم في الخطاب الرسمي الأميركي؟ حقاً، يا لها من ديمقراطية وثقافة حقوق إنسانية تلك التي تشحن إلى الشعوب المقهورة على آلية الحرب العسكرية والرعب النفسي
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1324 - الجمعة 21 أبريل 2006م الموافق 22 ربيع الاول 1427هـ