العائد من لبنان، كالعائد من «غابة سياسية». ومن مواصفات «الغابة» الفوضى وعدم التنسيق والترتيب. فالكل متداخل ومتشعب مع بعضه. ولا يعرف أول الغابة من آخرها الا ذاك الطرف الذي ينظر إليها عن بُعد أو من فوق.

الفوضى السياسية في لبنان هي العنوان المشترك لفهم تنوع تلك القراءات للمشكلات التي يعاني منها هذا البلد الذي اتصفت سياسات طوائفه ومذاهبه ومناطقه بالاختلاط والميوعة وعدم الثبات على موقف موحد. فكل طائفة ترى الأمور بمنظارها. وكل فريق يقرأ السياسة من مكانه. وتحت القراءة تظهر عناوين فرعية متداخلة تتشعب منها عصبيات متوترة تسيطر عليها نزعات مذهبية قلقة ومشدودة إلى منطلقات يصعب جمعها في دائرة واحدة.

الجامع المشترك الذي تتفق عليه القوى هو الانتظار. الكل ينتظر حصول «شيء ما». والكل خائف من هذا الشيء المنتظر. إلا أن هذا الكل لا يتفق على توصيف «المنتظر».

وبسبب الاختلاف على تحديد مواصفات المجهول تشكلت مجموعة قراءات لبنانية لا يعرف مصدرها، ولكنها قراءات محكومة بالمخاوف والقلق والشك. فالقراءات متشعبة ومتداخلة وغير منسقة في أفكارها ونسقها. فهي تشبه الغابة. وفيها نجد الأشجار المثمرة والسامة والأعشاب التي تتسلق كسباً لموقع أو مكان أعلى.

السياسات في لبنان طائفية في جوهرها حتى لو كان المسئول أو الزعيم أو الرئيس أو القائد يتحدث لغة «وطنية» أو «قومية» أو «علمانية» أو «ديمقراطية» أو «إسلامية». فالالفاظ في بلد تسيطر على مساحته الجغرافية غابة طائفية تتألف من مذاهب موزعة على مناطق منعزلة أو متداخلة لا معنى لها لأنها أساساً تقال اليوم وتسحب من التداول غداً. وبين اليوم والغد يمكن أن تحصل مجموعة متغيرات تعيد إنتاج الألفاظ وفق منظومة مصالح ترتسم حدودها على ضفاف المذاهب والطوائف والمناطق.

يستثنى من هذه القاعدة العامة مجموعات صغيرة في كل منطقة ومذهب وطائفة. وهذا المجموعات لا تزيد نسبتها المشتركة على 5 أو 8 في المئة. وبالتالي فهي غير قادرة على تمييز نفسها في وسط غابة سياسة متشعبة تحيط بها مواقع قوى قادرة على تطويقها أو إدارتها أو التلاعب بها... وصولاً إلى إضرام النار فيها. فمن شروط الغابة الفوضى وحين تنظم الفوضى وتنسق الأشجار تتحول الغابة إلى بستان. وهذا الأمر لا وجود له في بلد نهضت دولته على نظام لا وظيفة له سوى إنتاج قوى طائفية تتخذ من البلد ملجأ للتعايش أو التخاصم.

الكل في لبنان ينتظر الآخر. والآخر ينتظر تحولات ما في دائرة المحيط حتى يقرر ماذا يفعل؟ وما هو الموقف الصحيح وما هو الاتجاه الخطأ؟.

اللعبة إذاً خطرة. ومصادر خطرها أن هناك الكثير من الفرقاء يلعبون بالنار. وسياسة اللعب بالنار قد تؤدي إلى حال من التصادم في حال استنفدت القيادات قدراتها على احتواء التشنجات وتطويق التعبئة الطائفية والشحن المذهبي في الشارع. وفي هذا المعنى تختلف لغة القيادات عن لغات الشارع اللبناني (الغابة السياسية). فالقيادات تتحدث لغة معتدلة أحياناً ومتوترة أحياناً أخرى. والشارع الذي ينتظر هذا «الشيء» يميل إلى احتضان التوتر ونسيان الاعتدال. وبين هذا وذاك تضيع المقاييس وتتداخل السير الذاتية بالواقع الموضوعي وتصبح كل القوى متشنجة تنظر إلى بعضها بعضاً نظرات شك لا يمكن أن تستقيم في منطقة تعج بها الفوضى السياسية.

مثلاً، من هو مع الدولة وضدها في لبنان؟ الكل معها إذا كانت على صورة طائفته ومذهبه ومنطقته، وهذا يعني منطقياً أن الكل ضدها. وأيضاً من مع سورية وضدها؟ الكل معها إذا كانت على مقاس مصالح طائفته ومذهبه ومنطقته، وهذا يعني أن الكل ضدها أو أن الجزء من الكل معها ضد أجزاء أخرى ليست بالضرورة ضدها. وأيضاً من مع المقاومة؟ الكل مع والكل ضد بحسابات بسيطة أو مركبة. فالمع هو معها بشرط أن تكون قوة محلية تلعب لعبته الداخلية في حسابات مصلحية تستهدف ضربها بطائفة معينة لمصلحة طائفة أخرى. والضد هو ضدها لأنها ليست معه في حساباته المصلحية التي تطمح إلى الاستقواء بها في إطار لعبة من يسيطر على الغابة في النهاية.

القراءات اللبنانية للسياسة ليست مبدئية في جوهرها. فالضد والمع وما بينهما هم في النهاية مجموعة قوى تلعب بالنار في غابة متشعبة وفوضوية تعشعش فيها الأعشاب السامة والنباتات الضارة. وهذه الأعشاب تبدو كثيرة إلى درجة أنها نجحت في تعطيل الرؤية لمجرد أنها استخدمت مجموعة مفردات وألفاظ لا تتعدى سياق الكلام. وحين تصبح التحالفات مبنية على كلمات لا معنى لها في بلد هو أشبه بالغابة السياسية لا يستبعد أن تكثر الأخطاء. وتراكم الأخطاء يؤدي بالجميع إلى الوقوف على خط الانتظار وتوقع حصول «شيء ما» في الأفق المجهول