العدد 1323 - الخميس 20 أبريل 2006م الموافق 21 ربيع الاول 1427هـ

كانط ينقل أنوار الفلسفة من أوروبا إلى ألمانيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توفي الفيلسوف ايمانويل كانط في 1804 (1219هـ) في العام الذي أعلن فيه نابليون امبراطوراً على فرنسا. ولذلك لن يشهد هذا الفيلسوف الألماني تلك الحروب البونابرتية التي ستضرب أعماق القارة الأوروبية وصولاً إلى روسيا.

يعتبر كانط نتاج التراكم المعرفي الذي تأسس في أوروبا الحديثة بعد توسع الاكتشافات الجغرافية وتطور مختلف قطاعات المعارف من علوم وطب وهندسة وفيزياء ورياضيات. فهو ابن هذا العالم المتجدد في مختلف فروعه وروافده. لذلك يعتبره البعض أعظم فيلسوف أنجبته القارة. ويضعه هذا البعض في مرتبة واحدة مع أفلاطون وأرسطو. وهناك من يجد في هيغل أعظم فلاسفة أوروبا ويقدمه على كانط. هذا النقاش لم يتوقف إلى أيامنا: هيغل أولاً أم كانط. وفي الحالين اعتمد كل فيلسوف على مجموعة روافد رفعته إلى القمة، ثم عاد وتفرعت من فلسفته مجموعة مدارس انقسمت وتعارضت لكنها كلها أسهمت في بلورة الوعي الأوروبي وقيادة ألمانيا لحركة التنوير في القرن التاسع عشر.

ولد كانط في أسرة بسيطة في مدينة كونيجسبرغ في العام 1724 (1136هـ). والده كان يعمل في اسطبل خيول ومهنته هي سرج الخيل (Saddler). والمدينة التي تقع في بروسيا الشرقية كانت تعتبر في مقاييس ذاك الوقت متأخرة قياساً بلندن أو باريس. فآنذاك كانت ألمانيا غير موحدة وتأخر تطور الرأسمالية فيها قرابة القرن. فهي كانت متخلفة عن فرنسا قرابة مئة سنة وفرنسا كانت متأخرة عن بريطانيا قرابة مئة سنة أخرى. لذلك كانت النخبة الألمانية في تلك الأيام معجبة بالإنجازات التي حققتها بريطانيا على صعيد التقنية الصناعية وتطور مؤسسات الدولة، كذلك كانت متفاعلة مع صعود حركة الأنوار في فرنسا وما رافقها من نهوض فكري (الموسوعيون) مضافاً إليها تلك الحوادث التي وقعت وانتهت إلى إنتاج ثورة كان لها صداها في أرجاء القارة.

نجح ابن السراج في دخول معاهد المدينة، ثم درس في جامعتها اللاتينية والأدب والفلسفة والرياضيات وعلوم الدين والفيزياء وحصل في العام 1755 على ماجستير. بعدها انتقل للتدريس في الجامعة (استاذاً محاضراً) وحصل على مرتبة بروفيسور في المنطق والرياضيات والماورائيات في العام 1780، واستمر يدرس في الجامعة إلى العام 1796.

عاش كانط حياة عادية ومستقرة ولم يعرف عنه تعاطيه الشئون السياسية. فهو ابن عائلة متواضعة ومجرد استاذ يبحث في علم الماورائيات ولم يكن له شأن في هذا الحقل. بعدها حصلت تغيرات في تفكيره ومنهجه البحثي (التحليل والتركيب) وتعمق في قراءة تلك النتاجات التي وصلت إليه من بريطانيا وفرنسا فاطلع على نظريات اسحق نيوتن وتأثر بكتابات ديفيد هيوم وتابع كتابات لوك وروسو وفلاسفة الأنوار. ومن مجموع هؤلاء أعاد تركيب منهجه النقدي بعد أن تجاوز نصف قرن من عمره.

استمر كانط في حياته العادية ونشط في تطوير منهجه النقدي (اللاأدرية) وكان على اتصال بفلاسفة عصره، وخصوصاً فيخته الذي تأثر به، وشيلر الذي تأثر بدوره بأفكار كانط وفيخته سوية. وبفضل كانط ستنتقل فلسفة الأنوار في صيغة منهجية جديدة من فرنسا إلى ألمانيا التي ستتربع على عرش الفلسفة (المثالية) في القرن التاسع عشر.

برزت فلسفة كانط المستقلة في سنواته الأخيرة حين شرح منهجها في سلسلة كتب صدرت بين 1781 و1793، وواصل حياته العادية والمستقرة من دون مشكلات مهمة مع السلطة السياسية. فهو كان قادراً على إدارة علاقاته من دون اضطراب. وفي فضاء هذه الحياة العادية نجح في زعزعة استقرار فلسفة التنوير ونقلها من مكان إلى آخر. فأعماله النقدية الأخيرة ستحدث انقلاباً في رؤية المعرفة وصلتها بالفلسفة والعقل والدين، وتصنيفه وظائف كل حقل وصلته بالآخر، مميزاً بين الموضوعي والذاتي وبين الحدس والاستدلال وبين رؤية التصورات والبناء عليها. وأهم من كل ذلك ركز على الإنسان وقيمته الأخلاقية ودوره الأخلاقي في الحياة العامة ونظام الدولة ورؤيته للقانون. لذلك أطلقت على مدرسته هذه فلسفة الأخلاق.

أطوار فلسفة كانط

مرت فلسفة كانط في طورين، الأول: تأثرت أفكاره باستاذه الفيلسوف وولف الذي كان يعتقد أن الإنسان يستطيع أن يتعرف على العالم الغيبي (الماورائي) عن طريق الفكر البشري. والثاني حين استقلت أفكاره عن الاستاذ وبدأ يفلسف نظريته بشأن عدم قدرة الإنسان على معرفة الماورائيات (الغيبيات).

عاش كانط 80 سنة وأتاح له عمره الطويل نسبياً في توضيح عناصر فلسفته النقدية الجديدة، حين تخلص من هيمنة استاذه. تجاوز كانط الخمسين من عمره حين بدأ يشق طريقه الفلسفي المستقل ويعيد تأسيس منظومة نقدية متكاملة بعد العام 1770 (1184هـ) وهي خطوة سيكون لها وقعها الخاص في مجرى تطور العقل الفلسفي في أوروبا.

اكتشف كانط في بحوثه الثلاثة: نقد العقل الخالص أو المحض (1781)، نقد العقل العملي (1788)، ونقد ملكة الحكم (1790) أن العقل البشري قاصر يستطيع أن يفهم الظواهر المحسوسة عن طريق التجربة ولا يستطيع أن يفهم ما وراء الظواهر الا عن طريق التأمل. لذلك اتجه في العام 1793 (1207هـ) إلى تأليف كتاب رابع بعنوان: «الدين ضمن حدود العقل فقط» تعرض فيه لمسألة الدين محاولاً تقديم تفسير عقلاني للمسيحية. وشكل هذا الكتاب خلاصات فلسفية لأفكاره النظرية عن «العقل الخالص» و«العقل العملي» إذ دعا فيه إلى محاربة العقلية الغيبية التي تدفع بالإنسان نحو الخرافة مؤكداً ضرورة التنوير باستخدام العقل الحر.

استخدام العقل هو طريق كانط نحو الحرية، لأنه يساعد الإنسان على التخلص من الأفكار الشائعة والآراء الخاطئة والسائدة في المجتمع. لم يكن كانط ضد المسيحية أو ضد الدين وانما كان ضد التوهمات التي تدعي معرفة الغيب من طريق التأمل. لذلك اصطدمت فلسفته بتلك الفئة من رجال الاكليروس وذاك التيار الذي يدعي معرفته بالماورائيات.

شكلت نظريات كانط عن نقد «العقل» نقطة تحول في الفلسفة الأوروبية وأسست قواعد جديدة في التعامل مع الوقائع السياسية والحيثيات الاجتماعية وأسهمت في تشكيل منظومة نقدية واعية لقوانين الطبيعة والإنسان سيكون لها أثرها النوعي في تطوير النزعة النقدية المثالية/ العقلية. فالعقل الخالص (المحض) في فلسفته عاجز عن معرفة ماهية الأشياء وهو بطبيعته متناقض لذلك لا يستطيع أن يصل الا إلى متنافيات. لذلك لابد من وجود لعقل آخر أطلق عليه «العملي». فالعقل العملي هو الإرادة. والإرادة قوة تميز الإنسان وتجعله حراً في اتخاذ القرار. فالإرادة عند كانط هي العقل العملي الذي يمتلكه الإنسان وهي تحدد له قبول القوانين أو رفضها. وهذا يتطلب أن يتملك الإنسان نزعة أخلاقية عالية أو متعالية على الأشياء. فالإنسان حر بعقله العملي وعليه يعتمد في اتخاذ القرار وليس بسبب الخوف أو الرهبة من العقاب.

هذا التطور الانقلابي في منهجية كانط الفلسفية، وانتقالة في السنوات الأخيرة من عمره الطويل من مرحلة التأمل والقبول بالتفسيرات الماورائية إلى مرحلة نقد التأمل وضبط حدود المعرفة (الادراك) بالظواهر، جاء نتاج عصر الأنوار الذي نجح هذا الفيلسوف الألماني في دمج روافده وتجميعها في نسق عقلي يرى كل شيء يسير وفق قوانين علمية محددة.

آنذاك كانت العلوم شقت طريقها من فروع الفيزياء (الطبيعية) والرياضيات إلى المعارف الإنسانية. وكانت الآلة قد بدأت تتطور تقنياً واضعة الفلاسفة في زاوية صعبة طارحة مجموعة أسئلة على العقل، وأسلوب تعامله مع المعرفة.

كانط في هذا المعنى كان ابن عصره. فهو قرأ كتاب هوبس السياسي عن الدولة الكلية (المطلقة) وتعرف على كتابات هيوم وإضافاته في تطوير النزعة التجريبية ونظرية الشك. كذلك قرأ ما كتبه جيرمي بينثام عن الفلسفة النفعية، واعجب وتابع كتابات الفيلسوف الليبرالي لوك عن الإنسان ونزوعه نحو الحرية. كل هذه الاسهامات الفلسفية البريطانية التي سبقته أو عاصرته نجح كانط في استيعابها أو تجاوزها أو نقدها لتتشكل منها مجموعة مصادر دمجها مع أفكار فلاسفة الأنوار من فولتير ومونتسكيو وديدرو وفولباخ وروسو. فكانط هو قمة التطور الفلسفي الذي انطلق في أوروبا من ديكارت واسحق نيوتن إلى عصر الأنوار الذي عايشه عن بعد وتأثر به وصولاً إلى الثورة الفرنسية ثم الانقلاب عليها.

ضمن هذه التحولات طور كانط فلسفته وأقدم على تأسيس نظرية نقدية في المعرفة والاخلاق وعلم الجمال. لذلك تعتبر نظريته أول اعتراف بتقدم العلوم على حساب الفلسفة ونجاحها في إعادة تشكيل أنساقها الفكرية. فكانط انبهر بالتطور التقني (تقدم الآلة والاكتشافات الفيزيائية والاختراعات العلمية) فأقدم على غلق باب البحث عن الماهيات (الماورائية) لمصلحة النظر العقلي. فانتقد التأمل لأن العقل المحض (الخالص) لا يصل في الموضوعات الفلسفية الا إلى متنافيات. ولأن المعرفة النظرية معرفة تأملية لابد إذاً من عقل عملي ينظر إلى ظواهر الأشياء. فكانط ضد التأمل وضد الحدس أيضاً. فالعقل برأيه عاجز عن ادراك الأشياء في ذاتها وكذلك غير قادر على إمكان ادراك الماهية الأخيرة للوجود. فالعقل عاجز ولأنه كذلك فهو متناقض يبرهن على الشيء ونقيضه (اللاشيء). وبسبب نقده للتأمل والحدس ومعرفة الماورائيات أو ادعاء ادراك الماهية الأخيرة للوجود اندفع كانط إلى الدعوة إلى مصالحة الفرد مع المجتمع والإرادة الواعية (العقلية العملية) مع القانون.

بكل بساطة أعاد كانط الفلسفة إلى الإنسان. فالإنسانية عنده غاية. والرادع عند الإنسان الأخلاق، والواجب أخلاق، والطاعة أخلاق. فكل شيء يعود إلى الأخلاق. وهذه الفلسفة الأخلاقية تقوم على عقل نقدي. فالدين عنده «العقل»، والدولة «أخلاق».

وزع كانط الفلسفة إلى أربعة فروع، الأول: الماورائيات ويجيب عن سؤال «ماذا يمكن أن أعرف؟». والثاني: الأخلاق ويجيب عن سؤال «ماذا يجب عليّ أن أفعل؟». والثالث: الدين ويجيب عن سؤال «ما المتاح لي أن أتوقعه؟». والفرع الرابع هو الإنسان: (الاناسة) ويجيب عن سؤال «ما الإنسان؟». وبرأي الفيلسوف الألماني العقلاني/ المثالي أن الأسئلة الثلاثة الأولى (الماورائيات والاخلاق والدين) مرتبطة أو متعلقة بالأخير: الإنسان.

شكلت فلسفة كانط نقطة تحول في حركة التنوير العقلانية ورفعت ألمانيا إلى القمة الأعلى في تطور منظومات المعرفة. فقبله كانت الفلسفة دراسة الحكمة والتأمل في الكون والوجود والماورائيات والعلل الأولى وبعده ستتحول إلى العلم بالغايات الأخيرة للعقل الإنساني. وبما أن بلوغ الغاية الأخيرة للعقل الإنساني الأكثر ضرورة والأصعب فستبقى الفلسفة في هذا المعنى مجرد مشروع لم ينجز بعد. فالإنسان برأيه سيبقى عقله يسعى إلى حل مشكلة نهائية أو لا نهائية العالم في الزمان والمكان. فالعالم كما يراه متناه ولا متناه، والجزئيات التي لا تنقسم موجودة وغير موجودة. كذلك الإنسان حر وغير حر، يعرف ولا يعرف. فالعقل متناقض والطبيعة متناقضة والإنسان متناقض.

هذه النظرية التي اعتمدها كانط لدراسة الطبيعة المتناقضة للعقل تأسيساً لثنائية الأشياء في ذاتها وظاهرها أسهمت في تطور الفكر الجدلي والنظريات الوضعية والمثالية التي تشكلت في سياقات مختلفة في ألمانيا وأوروبا. فبعده ستنطلق ثورة عقلانية في هذا المشروع الفلسفي ستدفع الفلاسفة نحو الاسراع في تحديث نظرتهم إلى حقول العلوم التجريبية والوضعية أو ما يسميه «العقل العملي». وبعده أيضاً سينقسم الفلاسفة بين مؤيد ومعارض. وسيقف معه الشاعر الفيلسوف شيلر (توفي بعد كانط بسنة) والعالم اللغوي فون همبولدت، وفيخته، والفيلسوف شيلنغ.

هؤلاء الأربعة تضامنوا، كل على طريقته، مع فلسفة كانط الاخلاقية العقلانية. كذلك ستتشكل ضده معارضة قوية تألفت أيضاً من مدارس شتى تبنت وجهات مضادة في التعامل مع فلسفته المتشعبة والمتناقضة. هيغل مثلاً سينتقد نظرياته الجامدة عن الثنائيات والمتنافيات انطلاقاً من فلسفته الجدلية. كذلك سيتحفظ هذا الفيلسوف الكبير والمنافس على قمة الفلسفة الأوروبية في طورها الحديث على قراءة كانط لمسألة حدود قدرات الإنسان المعرفية، لكنه في الآن سيطور نظريته عن أهمية دور الصراعات (التدافعات) في تقدم السيرورة التاريخية للحياة الاجتماعية.

مقابل ملاحظات هيغل المتقدمة على نظريات كانط سيعترض عليها وقبل وفاته الفيلسوف هامان (1730/ 1142هـ - 1788/ 1202هـ) انطلاقاً من موقف روحاني متخلف عنه يؤمن بوحدة الذات والموضوع ويرفض التقسيم الكانطي للإنسان إلى ذات وموضوع. وهذا النوع من التفكير الفلسفي جاء رد فعل على عقلانية كانط التي تمسكت بالاخلاق ورفضت كل تلك الاحاسيس التأملية التي تتصل بالمشاعر والخيالات والأحلام والأوهام.

بعد كانط ستنقسم الفلسفة إلى تيارات. فالبعض سيستغل جوانب من أفكاره باتجاه المثاليات (الماورائيات) والبعض سينتقدها انطلاقاً من نزعة تاريخية تأملية (هيغل مثلاً) والبعض سينقلب عليها انطلاقاً من نزعة رومانطيقية تكره هذا التشدد العقلاني الذي قام كانط بتأصيله في كتبه الأربعة الأخيرة من حياته المديدة... التي توقفت لحظة اعتلاء بونابرت عرش الامبراطورية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1323 - الخميس 20 أبريل 2006م الموافق 21 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً