بعد تسلمه الخلافة، وقف الإمام علي بن أبي طالب (ع) مخاطبا أهل الكوفة، فقال: «يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن». وروي انه قام في أهل البصرة فقال: «ما تنقمون عليا يا أهل البصرة؟» وأشار إلى قميصه وردائه وقال: «والله إنهمـا لمن غزل أهلي. ما تنقمون علي يا أهل البصرة؟» وأشـار إلى صرة في يده فيها نفقته وقال: «والله ما هي إلا من غلاتي بالمدينة، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر ما ترون فأنا عند الله من الخائنين».
وهكذا لم يخرج علي (ع) بغير ما قال، ففي كتاب الأموال لأبي عبيد: «... عن عبدالرحمن بن أبي بكرة: لم يرزأ علي بن أبي طالب من بيت مالنا - يعني بالبصرة- حتى فارقنا، غير جبة محشوة أو خميصة درابجردية». (والخميصة كساء أسود معلم من الصوف ونحوها، ودرابجردية كانت منطقة في فارس).
نذكر هذه المواقف من تاريخ الإسلام، ونحن نرى مجلس النواب، الذي تصبح فيه البديهيات من أكثر الأمور تعقيدا، إذ يتصدى بعض النواب لإفشال مقترح بقانون لكشف الذمة المالية، بحجج أوهى من بيت العنكبوت، كالتذرع بوجود قانون العقوبات، ولا يعلم أين كان قانون العقوبات نائما طيلة العقود الماضية، ومن الذي سيجرؤ على إيقاظه من سباته العميق عندما تتعلق المسألة بأطراف مازالت على رؤوسهم (ريشة).
أكثر ما يسيء لأي نظام حكم أن يرفض مثل هذا المبدأ، فكشف الذمة المالية نظام معمول به في كل أنظمة الحكم الصالحة والرشيدة، إذ يقدم الشخص المنتخب أو المعين في منصب عالٍ، تقريرا موثقا عن أملاكه وأملاك عائلته وثرواتهم قبل تسنم المنصب الجديد، حتى يتم محاسبته مستقبلا لو تبين استغلاله لمنصبه في سبيل الإثراء غير المشروع، بالمقارنة بين ثروته قبل وبعد المنصب، مع وجود آليات أخرى تتعلق بعمل المحاسبين لاتخاذ القرار بحقه. فما الذي يخيف بعض النواب من مثل هذا القانون المقترح والذي أراد البعض وأده وهو ما يزال جنينا في مراحله الأولى؟ فهذا القانون لو تسنى له التطبيق العادل، المفترض ألا يخشاه غير المتنفذين، وليس من يفترض فيهم أنهم يمثلون الشعب. ثم ان نظام الذمة المالية من صلب الحكم الإسلامي الصالح، فالإمام علي (ع) يكشف ذمته المالية أمام الناس ويجعلهم مسئولين عن محاسبته، كما وطبقه على ولاته وعماله بصفته مسئولا عن مراقبتهم ومحاسبتهم. ومن الحوادث التي ذكرها ابن أبي الحديد المعتزلي أن الإمام كتب كتابا إلى بعض عماله يطالبه برفع حسابه إليه بعد أن أخبره الرقباء عن تجاوزاته، قائلا: «أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جردت الأرض، فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليا حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام».
وتنبع أهمية كشف الذمة المالية من المكانة المهمة للمال في كل النظم التي تحترم شعوبها، حتى جعله الإسلام ضمن ثلاثة أمور تشدد في صيانتها، وهي المال والعرض والدم، ومن الضروري أن يصدر قانون كشف الذمة المالية لعله ينفع في حفظ ما بقي من ثروة ويحول دون تسربها للجيوب الخاصة
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1321 - الثلثاء 18 أبريل 2006م الموافق 19 ربيع الاول 1427هـ