التجربة البحرينية خلال السنوات الماضية تعتبر مادة خصبة للدراسات السياسية لأنها تمتلك مقومات اتجاهين في العمل السياسي، احدهما الاتجاه المؤسسي، والآخر الاتجاه الجماهيري. وفي كثير من الأحيان، فإن الغالب على الحال البحرينية هو الاتجاه الجماهيري، بمعنى أن من يتصدى للساحة لا يحتاج إلا إلى وسيلة لإيصال رأيه للجمهور ليتحرك مباشرة معه ومن خلاله. أما الحال المؤسسية فهي تتطب آليات وتخطيطاً ومراجعة وإرادة ثابتة، ونَفَساً بعيد المدى، وهذه كلها مجالات للمتخصصين. أما الحال الجماهيرية فهي لا تحتاج إلا إلى خطاب حماسي يحرك العواطف الجياشة بهدف الحصول على أكبر عدد من المؤيدين الذين هم حاضرون في النشاط العام.
الحال الجماهيرية، أو الشعبوية، تكون هي الرائجة عندما تشتد الفروقات المجتمعية، بين الذين يملكون كل شيء (الأقلية) وبين الذين لا يملكون شيئاً، أو يملكون القليل جداً (الأكثرية). وفي هذه الحال تبرز شخصيات تتحدث بآلام الأكثرية (الجماهير) وتعدهم بنقلهم إلى وضع آخر لا توجد فيه المفارقات التي تزيد هموم الناس كلما فكروا فيها.
من هنا يمكن فهم الجاذبية نحو الخطاب الجماهيري الذي يسعى إلى النزول إلى مستوى تجتمع عليه مشاعر الأكثرية، وعليه فإن النتيجة هي انتشار لخطاب حاد في الطرح. أما العمل المؤسسي فهو لا يستطيع اللحاق بالحال الجماهيرية الملتهبة، لأن العمل المؤسسي يعني اجتماع المسئولين عن الأمر وتداول الآراء ومقارنة الخيارات وإجراء المشاورات قبل اتخاذ قرار معين أو اتباع سياسة محددة أو تصعيد اللغة أو تخفيفها. العمل المؤسسي يصبح وجوده شكلياً، بل إنه يتحول إلى مجموعة صغيرة تابعة إلى الشخص الذي سيرفع الخطاب الأكثر قبولاً من الجماهير. وفي هذه الحال، فإن المؤسسة اذا اختلفت مع الشخص الأكثر شعبية فإن عليها إما أن تصمت، وإما تتماشى مع الوضع، أو تنخرط مع الجمهور الأوسع. وبالنظر إلى تجارب الآخرين، فإن الحال الجماهيرية اذا لم تتحول مع الزمن إلى حال مؤسسية فإن النتيجة هي خلق دكتاتورية من نوع آخر... فالشخص الذي يلهب مشاعر الجماهير لا يحتاج إلى المؤسسات من الأساس، وعليه فإن الجميع يجب ان يرتب وضعه من النسق العام الذي تنخرط فيه الجماهير. صاحب الخطاب الأكثر جاذبية لأوسع قاعدة سيكون هو الحكم الفصل في كل شيء، والجمهور سيتوجب عليه الانصياع للرأي الفاصل. والرأي الفاصل يتحول إلى «عملة صعبة» مطلوبة في كل صغيرة وكبيرة، بحيث لا تتحرك الأمور إلا إذا كان صاحب الرأي الفاصل راضياً عنها، أو انه لم يعارضها. وفي خلال السنوات الخمس الماضية تأسست جمعيات أهلية وسياسية كثيرة سعت إلى مأسسة النشاط العام، وكل جمعية لها نجاحات وإخفاقات. فبعض الجمعيات النخبوية لها ترتيب مؤسسي ولكنها تفتقد الشعبية الواسعة التي تؤهلها لقيادة العمل الوطني بصورة أكبر تأثيراً، وبعض الجمعيات الجماهيرية لها قاعدة واسعة ولكنها لا تمتلك الآليات المؤسسية للسيطرة على شئونها بالطريقة التي تود. وعليه، فإن هذا النوع من الجمعيات يلجأ إلى القائد الجماهيري (صاحب الرأي الحاسم) لتسيير الأمور العادية وغير العادية.
ان السنوات الخمس الماضية أعطتنا مجالاً للتجربة لنرى من خلالها كيف ندير شئوننا وكيف نتوجه نحو مجتمع يدار مؤسسيّاً، ويتكامل فيه الجميع نحو تعزيز حياة سياسية ديمقراطية وتنمية اقتصادية مستدامة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1321 - الثلثاء 18 أبريل 2006م الموافق 19 ربيع الاول 1427هـ