أسئلة كثيرة تتردد في أوساط المجتمعات العربية وبين صانعي القرارات فيها: هل من الأفضل أن نترك كل فكر ينتشر كما يشاء؟ وهل الأفضل أن نحاصر الأفكار ونكبلها بقيود حديد؟ هل الأفضل أن نلزم الآخرين برؤيتنا مهما كانت؟
هذه الأسئلة وغيرها تتردد في أذهان صانعي القرارات في بلادنا العربية وواقعهم يقول إنهم يميلون إلى فرض رؤيتهم - مهما كانت - على مجتمعاتهم ويعتقدون أنهم بذلك يخدمون أنفسهم ومجتمعاتهم.
إن الأفكار والنظريات التي تحرك المجتمعات كثيرة ومتباينة، وهي قد تروق لفئة دون أخرى، وقد تغضب صاحب القرار مرة وترضيه مرة أخرى. مع أنها أحياناً لم تتغير. فكيف يسير المجتمع وفق ضوابط تقبلها الغالبية على أقل تقدير؟
سأورد بعض الأمثلة التي تثبت أن الحجر على الأفكار قد يدفع إلى انتشارها بصورة كبيرة، وبالتالي فإن هذا المنع لا يحقق الهدف الذي يريده من أراد هذا المنع.
كتبت بعض الصحف السعودية أن رواية «فسوق» انتشرت وبقوة بين أبناء المجتمع، وأن هذه الـ «فسوق» حققت مبيعات متميزة قياساً بسواها من الروايات سواء كانت تملك صفة الـ «فسق» أو لا تملكها... هذه الرواية وهي لعبده خال كانت ممنوعة ثم رُخِّصت، اطلعت عليها فوجدت فيها المفيد كما وجدت نقيضه. والمفيد وسواه هنا مسألة يختلف عليها الناس، وشخصياً اعتقد أن الضار في الرواية أكثر من النافع، ومع ذلك لا أرى مبرراً لمنعها وكان ينبغي على من اتخذ قرار المنع أن يترك للقارئ تحديد موقفه منها.
الشيء الذي أجزم به أنه لولا منعها لما انتشرت بهذه الطريقة؛ فالممنوع مرغوب - كما يقال - والناس يحبون الاطلاع على الممنوعات مهما كانت قيمتها ولاسيما في المجتمعات العربية التي تعودت على كثرة الممنوعات فأصبحت تلاحقها أينما كانت...
وما قلته عن «فسوق» أقوله عن «بنات الرياض» وهذه الرواية في اعتقادي هزيلة بكل المقاييس فليس فيها من مقدمات الرواية شيء، والأعجب من الرواية صاحبتها، فقد استمعت إليها في برنامج تلفزيوني فرأيتها غير قادرة على التعبير عن أفكارها فكأنها في واد وروايتها في واد آخر.
الكاتبة مبتدئة - هذا لا جدال فيه - وقد تكون كاتبة متميزة في المستقبل - هذا ممكن - لكن هذه الرواية لولا منعها ولولا الضجة التي أثيرت حولها ما كان لها أن تنتشر بتلك الصورة الواضحة.
حجر من نوع آخر تمارسه بعض الدول العربية على بعض المواقع على شبكة «الانترنت». هذه الممارسة هي نوع من الوصاية القسرية على الناس، والقائمون على هذا «الحجر» يرون أن من حقهم منع هذا الموقع أو ذاك، وحجتهم أن هذا المنع يصب في مصلحة الناس. كأن هؤلاء الناس لا يعرفون مصلحتهم وينتظرون من هؤلاء المانعين» أن يدلوهم عليها!
هذا اللون من الوصاية لا يحقق الهدف مطلقاً وإنما يحقق عكسه تماماً لأن الذي يحرص على متابعة موقع معين سيجد السبل الكفيلة لمعرفته حتى وإن حجب. كما أن حجب مواقع معينة قد يدفع البعض لممارسة هوايته في التعبير عن آرائه في مواقع أكثر سوءاً.
لون آخر من الحجر على الأفكار والحريات تمارسه بعض الأنظمة العربية هو منع الانتخابات بصورة مطلقة أو جزئية، ففي مجالس الشورى والشعب والأعيان وسواها من المسميات تمارس الدول نوعاً من الضغوط على المرشحين مع أنها تعين جزءاً كبيراً منهم بحسب مواصفاتها ومقاييسها كي تضمن الولاء المطلق، أما الدول التي تعين الجميع فهي تحرص على هذا الولاء ابتداء ولا يهمها كيف تحصل عليه.
مثل هذا الكلام ينطبق على مجالس الجامعات والكليات والمجالس البلدية وما في حكمها. وكان الأحسن لكل هذه الدول أن تجعل هذه الوظائف بالانتخاب النزيه كي تضمن حسن الاداء ولكي يشعر كل مواطن بأنه جزء من هذا المجتمع الذي تمارس فيه هذه الأعمال فيتفاعل معها ويشارك فيها بكل اخلاص.
في مسألة الحجر على الأفكار - أيا كانت - يجب أن يكون هناك توازن دقيق فيما يسمح به أو يحجر عليه... ليس كل فكر أو كل صاحب فكر ينبغي أن يسمح له ليقول كل ما يريد وفي أي مكان يريد. وأيضاً ليس من المصلحة منع كل فكر نختلف معه من دون أسباب قوية متفق عليها عند غالبية الناس.
يجب على دولنا أن تدرك أن أزهى عصورنا التاريخية كانت مليئة بالحريات، وأن هذه الحريات كانت وراء التقدم الحضاري والسياسي الذي وصلت إليه أمتنا آنذاك.
ويجب عليهم معرفة أن تأخرنا الحضاري والسياسي كان بسبب القمع الواضح للحريات العامة، وأن الأمة المقهورة لا يمكن أن تبني حضارة من أي نوع كان.
أتمنى أن يدرك من يمارس الوصاية القهرية على الآخرين، هذه الحقائق فيريح ويستريح
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1320 - الإثنين 17 أبريل 2006م الموافق 18 ربيع الاول 1427هـ